الثلثاء ١ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آب ١٦, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
في الموازنة الصعبة بين الإرهاب وحقوق الإنسان - محمد الحدّاد
كان الرئيس النيجيري محمد بخاري محقّاً عندما طرح في زيارته الأخــــيــــــرة للــولايات المتحــــــدة مـــوضــوع معايير تقييم حقوق الإنسان في العالم، ففي محاضرته على منبر «معهد السلام» بواشنطن جادل بجرأة لإثبات الفكرة التالية: إنّ هذه المعايير تطبّق حالياً على الدول التي تقع ضحية الإرهاب ولا تطبّق ضدّ الجماعات المتطرفة التي تمارس هذا الإرهاب، ويترتّب على ذلك أن تصبح هذه المعايير عبئاً إضافياً على هذه الدول.

محمد بخاري رئيس يستمدّ شرعيته من انتخابات نظّمت وفق المعايير المعترف بها دولياً وأقرّت بنتائجها القوى السياسية النيجيرية والعواصم العالمية، لذلك لم يطرح الموضوع من باب المعارضة التقليدية التي تميّز الأنظمة الدكتاتورية لكلّ ما يعكّر مزاجها. وهو يرأس أغنى بلد نفطي في أفريقيا يواجه منذ سنوات وضعاً كارثياً لأسباب عدة منها قوّة الحركة الإرهابية «بوكو حرام» التي أطلقت يدها إفساداً في كلّ البلاد، وعجز الجيش والدولة عن مواجهتها. والموضوع الذي أثاره مهمّ ويتطلب التفكير والتعمق.

ثمة بدءاً أطروحة لا بدّ من إلغائها، تلك التي تقول إنّ الأمن الوطني إذا أصبح مهدّداً فلا حديث عن حقوق الإنسان، ووجه الخطأ في هذه الأطروحة أنها لو طبقت بحذافيرها لتحوّلت الدولة معها إلى وضع التوحش، مثل الجماعات المتطرفة التي تحاربها، وهذا أفضل انتصار للإرهاب إذا أصبح قاسماً مشتركاً بين الأطراف المتنازعة. الدولة ينبغي أن تظل دولة، أي هيكلاً يتصرّف بمقتضى مبادئ وقوانين وحقوق، وإلا أصبحت ميليشيا. فلا بدّ من احترام القانون وحقوق الإنسان في كلّ الحالات، مع توفير فرص النجاح في مكافحة الإرهاب من جهة أخرى.

بيد أنّ تحقيق هذا التوازن يفترض أيضاً إعادة النظر في طرق عمل المنظمات الحقوقية الدولية باتجاهين أساسيين. لنتذكّر أنّ كلّ الجهات الرقابية لحقوق الإنسان، سواء الرسمية (هيئات الأمم المتحدة) أو الأقل رسمية (المنظمات العالمية الأكثر شهرة) نشأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما كان ينظر إلى انتهاكات حقوق الإنسان على أنها أعمال تصدر أساساً، بل حصرياً، عن الدول. لذلك تراكمت خبرة كبيرة لديها في طرق الضغط على الدول لاحترام هذه الحقوق وتطوير تشريعاتها وسلوكها في هذا المجال. كما أنها كانت أساساً تواجه انتهاكات حقوق الإنسان خارج الغرب، أما في الغرب فكانت هذه الانتهاكات محدودة، أو هكذا كانت تبدو، مقارنة بما يحصل في مناطق أخرى.

لا شكّ أن هذين العاملين أثرا كثيراً في هيكلة هذه الهيئات والمنظمات التي أصبحت تعمل بطريقة آلية ورتيبة، مع أنّ العالم تغيّر في السنوات الأخيرة، بما يفترض مراجعة جذرية لطرق العمل. فانتهاك حقوق الإنسان لم يعد حكراً على الدول والهيئات الحكومية، ولا بدّ أن تساهم المنظمات الحقوقية في الضغط على الجماعات الإرهابية، على الأقل من جهة تنظيم حملات عالمية لفضح ممارساتها، بدل الاكتفاء ببيانات لا تضير الإرهابيين ولا تحرّك لهم ساكناً. إن التقصير الواضح للمنظمات الحقوقية الدولية في الحرب ضدّ الإرهاب، يطرح مشكلة حقيقية، لأنه يظهرها وكأنها تنظر إلى الموضوع بعين واحدة، وتكبّل الدول التي تبدو أحياناً الطرف الأضعف في المعادلة، لا سيما تلك التي تسيرها حكومات شرعية ومسؤولون منتخبون ديموقراطياً.

من جهة أخرى، يتعين على المنظمات الحقوقية أن توازن بدورها بين نقدها للأوضاع العالمية والأوضاع في الغرب. وليس المقصود مجرد الإشارة إلى انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الغربية، مما لا يغيب عن تقارير هذه المنظمات، وإنما الإشارة إلى مسؤولياتها في فرض نظام دولي جديد وسياقات إقليمية تفرّخ العنف والإرهاب، بسبب السياسات القصيرة الأمد (أو الخبيثة الأبعاد)، والعولمة المتوحشة التي تمثل الوجه الآخر للإرهاب. ولعل ليبيا أفضل مثال اليوم، عندما تركت لتصبح أفغانستان أفريقية، يتضرّر منها كلّ الجوار، وسيتواصل الضرر سنوات طويلة أخرى. أين هي هذه المنظمات عندما ترك بلد بكامله يتقدّم نحو الخراب، والعشرات من المناضلين الحقوقيين والصحافيين يقتلون من دون تشهير عالمي بجرائم قتلهم؟ ألا يحاسب أحد على الاستراتيجيات التي اعتمدتها الدول الغربية في التعامل مع هذا البلد المنكوب بما يمثل انتهاكاً لحقوق شعب بكامله؟

لقد مثلت حقوق الإنسان مكسباً إنسانياً كونياً جاء نتيجة كارثة الحربين الكونيتين الأولى والثانية، لكن العالم يواجه اليوم كارثة من نوع جديد، ولا بدّ لحقوق الإنسان، كي تستمر وترسخ، أن تعيد التكيف مع الأوضاع الجديدة المختلفة كثيراً عن سياقات سنة 1945. لكن العديد من الهيئات والمنظمات أصبح بمثابة الهياكل البيروقراطية الرتيبة، تعمل مثل إدارات الكهرباء وتصدر بياناتها مثلما تصدر تلك الإدارات فواتيرها للمستهلكين، ولا تكلف نفــــسها عنــــاء التحليل والابتكار واستخلاص النتائج. ولقد أصبحت بيانات التعبير عن القلق التي يصدرها الأمين العام للأمم المتحدة مثيرة للسخرية، وتقارير المنظمات العالمية أصبحت أيضاً شديدة الرتابة والسطحية ولا تساهم في تحريك جبهة حقوق الإنسان بالاتجاه المأمول.

ولما كانت حقوق الإنسان مثلاً أعلى تلتقي حوله البشرية وتسعى إلى التوحّد في تطبيقه ومقاومة كلّ إخلال جسيم به، فإن دور هذه الهيئات والمنظمات مهم جدّاً في المحافظة على مقبولية هذا المثل الأعلى ومصداقيته لدى الجزء الأكبر من الناس، ومسؤوليتها في المحافظة على مصداقية هذه الحقوق رهين تفاعلها الإيجابي مع تطورات الأوضاع العالمية وليس مجرد التعامل الشكلي مع الأحداث. ولا يمكن أن تقتنع الشعوب بحقوق الإنسان ما لم يعترف قبل ذلك بحقها في أن تعيش كشعوب، أي في إطار دولة وليس في إدارة التوحش الذي يسعى الإرهاب العالمي إلى فرضه في العديد من أجزاء المعمورة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة