الأثنين ١٤ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: حزيران ٢١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«النموذج التونسي» يترنّح! - محمد الحدّاد
كنّا نأمل، وقد حمل معنا العرب والعالم هذا الأمل، بأن تنقذ تونس شرف الثورات العربية الخائبة بتحقيق نجاح، ولو نسبيّاً. لكنّ هذا الأمل يواجه حالياً تحدّياً ضخماً وستكون الأشهر المقبلة حاسمة في إيقاد جذوته أو إخمادها. وإذا سقط النموذج التونسي بدوره، ينبغي التفكير بجديّة في قابلية المجتمعات العربية لإنشاء نموذج حكم توافقي على النمط الحديث، وقد لا يبقى لنا إلاّ أن نعيد قراءة ابن خلدون وبرنارد لويس وبرتراند بادي وصمويل هنتنغنتون بتواضع وتسليم.

أجل، تونس تمرّ بوضع حرج. الموسم السياحي سيكون كارثياً بسبب الإرهاب، وإنتاج الفوسفات متوقّف بسبب الاعتصامات وقطع الطرق، وشركات التنقيب على النفط تهدّد بمغادرة البلاد بسبب حملات المطالبة بالتدقيق في عقودها، ونسبة الإضرابات جديرة بأن توثّق في كتاب «غينس» للأرقام القياسية، حتى أنّ وزارة التربية قرّرت الترقية الآلية للجميع في التعليم الابتدائي بسبب تواصل إضراب المعلمين وتعذّر إجراء الامتحانات.

ولا يقتصر الأمر على الاقتصاد، فمؤسسات الجمهورية الثانية تبدو في حالة شلل، والدستور الذي اعتبر معجزة التجربة التونسية ما زال حبراً على ورق. وفي هذا الدستور، ينصّ الفصل 11 على أنّ كلّ أعضاء الحكومة والبرلمان مطالبون بالتصريح بممتلكاتهم، وينصّ الفصل 13 على أنّ عقود الاستثمار المتعلقة بالثروات الطبيعية تعرض على اللجنة المتخصصة بمجلس الشعب، والفصل 10 على أداء الضريبة وفق نظام عادل ومقاومة التهرّب الجبائي، والفصل 12 على مبدأ التمييز الإيجابي للنهوض بالمناطق المحرومة، الخ. كلّ هذه المبادئ يفترض أن تتحوّل إلى إجراءات ملموسة وقوانين ذات صبغة تنفيذية. هذا عدا صياغة قانون ضدّ الإرهاب ما زال في فصوله الأولى بينما الإرهاب بلغ منذ سنوات مراحل متقدّمة، وإرساء المجلس الأعلى للقضاء وقد فات أجله الدستوري، والقائمة طويلة.

ونرى الجمود ذاته في المستوى الحزبي، إذ تُسمع من كلّ الاتجاهات جعجعة ولا يُرى طحن، ويتبارى المتحزّبون في الحوارات التلفزيونية ويفشلون في أبسط الاختبارات الميدانية. فحزب «نداء تونس» الفائز في الانتخابات تعرّض، كما كان متوقّعاً، لانقسامات حادّة، لأنه في الواقع تحالف انتخابي وليس حزباً حقيقياً، وقد أعاد مؤخراً ترتيب بعض أوضاعه الداخلية، أو هكذا يبدو، لكنّ الغريب أّنك لا تشعر أنه يساند حكومته، بل يبدو أنّ المساند الأكبر هو راشد الغنوشي رئيس حزب «النهضة» الذي لا يشارك في الحكومة إلاّ بمنصب وزاري واحد، وهو لعمري وضع غريب في الشأن السياسي! بيد أنّ حزب «النهضة» يشهد بدوره وضعاً صعباً، بين قيادته التي تساند الحكومة بقوّة، وجزء من قواعده يشارك عملياً في الحراك العام الهادف لإسقاطها. والمؤكّد أن القيادة لم تعد قادرة على ضبط قواعدها، كما لم تعد قيادة المنظمة العمالية قادرة أيضاً على ضبط النقابات القطاعية التابعة لها.

الوضع الخطير المهدّد بالانفلات تواجهه الحكومة ببرودة دم مبالغ فيها، إنها تعمل من دون سند حزبي وتحاول لملمة أوضاع مفتوحة على كل الجبهات، وتستعمل في مخاطبة الشعب، إذا ما خاطبته، لغة تقنيّة لا يفقهها إلاّ الخبراء والمحلّلون. وقد وضعت ثقلها في ما دعته بالحرب على الإرهاب، وحقّقت في ذلك نجاحات لا تنكر، لكنّ عودة العمليات الإرهابية أضعف موقفها، والأهم أنّ جزءاً من الشعب لا يرى أصلاً قضية الإرهاب قضيته الأولى، بل يشعر أنّ هذا الملف قد وظّف منذ سنوات لتهميش القضايا الاجتماعية والتغطية على الفساد.

«الجبهة الشعبية» التي تمثّل تحالف اليسار هي أيضاً في شلل، لأنها منقسمة بين مكوّنات تتطلّع إلى إسقاط الحكومة وأخرى تدرك أنّ إسقاطها سيعيد «النهضة» إلى الحكم. وفي غياب حسم مشترك في الخطة الأفضل، لا يبقى من جامع بين مكوّنات الجبهة إلاّ النقمة على «نداء تونس» الذي استعملها سابقاً للإطاحة بالحكومة ذات الغالبية النهضوية ثم تركها بعد الانتخابات ليشكّل الحكومة بتحالف مع «النهضة». أما الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وكان قد حصل في انتخابات 2011 على حوالى 7000 صوت لا غير، وأصبح رئيساً بقرار من حزب «النهضة»، فلا يغفر لحلفاء الأمس أنهم تخلّوا عنه في انتخابات 2014 وساندوا خصمه، وقد فهم أنّ شعبيته أصبحت كبيرة لدى جزء من قواعد «النهضة»، فأصبح يعمل جاهداً على استقطابها، كما أنّ مقرّبيه لا يخفون تشكيكهم في نتائج الانتخابات وتصوير زعيمهم بأنّه ضحية انقلاب قادته الثورة المضادّة، مع أنّ الانتخابات تمّت تحت رقابة كلّ المنظمات المحلية والعالمية.

كيف يمكن للشعب أن يواصل المراهنة على الديموقراطية وهو يعايش هذا المشهد البائس، ويعاني الأمرّين في حياته اليومية من تردّي الأوضاع الاقتصادية والخدمات العامة؟ كيف نلوم آلاف الشباب الذين يختارون الانخراط في مشاريع الجهاد أو الهجرة السرية في قوارب الموت؟ كيف لا يشجّع هذا الوضع على عودة المطالبات بتطبيق الشريعة وإحياء مراسم الخلافة أو، على الطرف النقيض، الحنين إلى عودة حكم العصا الغليظة لتوفير الاستقرار والنظام؟

يراهن بعضهم على شهر رمضان ثم حرارة الصيف ليتحقّق بعض الهدوء ويخفّ شيء من الاحتقان. ربما. لكن العودة السياسية والاجتماعية توشك أن تكون كارثية بعد ذلك، إذا لم تستثمر الأشهر المقبلة في إيجاد الحلول والتوافقات، ويتولّى كلّ طرف ترتيب البيت الداخلي، وتفهم الحكومة أنّ محاربة الإرهاب لا تغني عن المعالجة الجذرية للقضايا الاجتماعية، ويدرك العمّال أنّ الإفراط في الاحتجاج يدمّر آلة الإنتاج على رؤوس الجميع، ويفهم أصحاب المصالح أنّهم سيفقدون كلّ شيء إذا لم يقبلوا بالتضحية بجزء من مصالحهم للمصلحة العامة، ويقتنع اليسار بأن تونس لا يمكن أن تكون ألبانيا أو كوبا، ويعي أنصار العهد السابق أن عهدهم ولّى بلا رجعة، ويقتنع المرزوقي بأنه ليس محمد مرسي، ويعقد «نداء تونس» مؤتمره معلناً التخلّي عن الفاسدين الذين احتموا به، وينظّم حزب «النهضة» مؤتمره ويطرد الصقور الذين ورّطوه سابقاً بمساندة الإرهاب، ويعيد رئيس الحكومة تشكيل حكومته على أساس الكفاءة، ويتدرّب المسؤولون على الحديث بلغة تفهمها كل فئات الشعب.

لكن هيهات أن يتحقّق هذا كلّه في ثلاثة أشهر، ونرجو ألاّ يكون لسان حالنا بعد ذلك المثل العربي القديم «الصيف ضيّعت اللبن»!


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة