الأثنين ١٤ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: حزيران ٢١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الفضيحة في وجه ابتزاز- الحد- الأدنى - سامر فرنجية
«ما تتحكّموا عنّا» (أي: لا تتطبّبوا عندنا)، بهذه الكلمات الثلاث لخّص نقيب الأطباء أنطوان البستاني موقف نقابته من مسألة قضية الطبيب الموقوف عصام المخلوف، بعدما تحوّلت إلى قضية وطنية يتصارع عليها قطاع الطبابة مع قطاع الإعلام. في لحظة «طفْح الكيل» هذه، صرخ النقيب بعبارته ذات الكلمات الثلاث، مبتزاً الإعلام اللبناني ومن ورائه من يتعاطف مع حملته على النقابة. إنّه ابتزاز، شارك فيه الأطباء المعتصمون، مفاده أنّ حصانة الطبيب وعدم مساءلته شرط أساسي لتقديم الخدمات الطبية، بالإضافة إلى دفع الفاتورة طبعاً.

تبرير هذا الابتزاز هو ضرورة اتّباع المهنية والموضوعية في مساءلة الطبيب وليس «الغوغاء الإعلامية». بيد أنّ هذه النقابة الطافح كيلها لم تبادر منذ عقود إلى محاسبة طبيب أو فتح ملف الأدوية أو المساهمة في حل ملف المستشفيات أو فضح فساد قطاعها. إنّها قضت بذاتها على دورها التحكيمي، فاتحةً الباب أمام الإعلام ومحاسباته الشعبوية. بهذا المعنى، فابتزازها ليس دفاعاً عن معايير، بل عن حقّها الحصري في تحديد هذه المعايير، ومن ثمّ خرقها. إنّه ابتزاز-الحد-الأدنى، يتستّر بالمؤسسات ليحمي حقّه في تفريغها من أية فعالية، ولا يقدّم لضحاياه إلاّ الحقّ بأنّ يخضعوا كاملاً لشروط المبتزّ.

بعيداً عن تفاصيل هذه القضية، ومسؤولية أو عدم مسؤولية الطبيب الموقوف عن وضع الطفلة إيلا طنوس، أظهرت القضية منطق الخطاب العام في ظل الاهتراء الراهن. فنقابة الأطباء ليست وحيدة في ممارستها، بل باتت جزءاً من حالة ابتزاز-الحد-الأدنى هذه: عدم مساءلة الإجرام المعماري للقطاع العقاري، أو عملية النهب المنظّمة للقطاع المصرفي باسم اقتصاد على شفير الهاوية، عدم مساءلة مجلس نواب ممدّد ومعطّل باسم استقرار هشّ لا يحتمل انتخابات، عدم مساءلة مشاريع آل الحريري الكارثية باسم مواجهة حزب الله المدمّر، وعدم مساءلة حزب الله وحروبه الطائشة باسم الحرب على الإرهاب. إنّه ابتزاز مفاده حقّ المبتزّ في إعادة إنتاج شروط ابتزازه، والبديل دائماً هو الخراب. إنّه ابتزاز العيش فيما طيف الحرب الأهلية حولنا، حيث استُبدل مجرمو الحرب بالمبتزّين بطيفها.

في وجه عقد كهذا، فشلت طرق المعارضة «التقليدية»، القانونية والمؤسستية والانتخابية، في إحراز أي تقدّم أو تغيير في قواعد اللعبة. فالمعارضة «الإصلاحية» و «البنّاءة» و «العقلانية» فقدت فعاليتها في وجه هذا الابتزاز، الذي يطرح الخراب، أكان أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً، كبديل فعلي وحيد لابتزازه. فالسيطرة على «هشاشة الوضع» تشكّل أداة حكم تشلّ المعارضات التقليدية عبر تحويلها مسؤولة عن الدفاع عن الأمر الواقع الرافضة له. كما أن عقدين من الفساد حوّلا منظومة الابتزاز إلى تركيب أهلي وقانوني وسياسي، يصعب التقاطه من قبل المعارضات التقليدية. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ «الإصلاح» و «المعارضة البناءة» باتا الحليفين الموضوعيين لحكم الابتزاز.

في وضع أفقه مسدود كهذا، أظهر سلاح «الفضيحة» فعالية فاقت بكثير ما أحرزته الطرق المعتادة للعمل السياسي أو النقابي. فمع اكتشاف وسائل الإعلام لمكاسب «المسألة الاجتماعية»، خاصة عندما تكون فضائحية ومصوّرة، انكبت تلك الوسائل على نقل علني لـ «الفضائح» وتبنّيها، وبينها فضيحة قضية إيلا طنوس. والفضيحة سلاح فتّاك، يضع الجميع أمام محكمة «الشارع»، التي يجيشها المقدّم الواعظ ويوجه سخطها في الاتجاه الذي يريد. فهي بتعريفها غير موزونة ولا تعتمد على تقنيات علمية أو مؤسستية، بل تقوم على شعبوية «الأخلاق العامة» و «الإحساس البسيط» بالصواب والخطأ. إنّها سلاح دمار شامل، يمكن أن يستعمل لتكثيف الاشمئزاز من محام يضرب زوجته في الشارع أو لتبرير مقرف لعنف ضد المرأة، كالذي قدمه التلفزيوني طوني خليفة مرتين.

الفضيحة سلاح غير دقيق، يمكن أن ينصر الضحية أو أنّ يهاجمها، أن يجيّش أخلاق الجمهور أو أن يدغدغ عنصريته الدفينة. بيد أنّها السلاح الأخير في وجه عقد الابتزاز الذي بات مفروضاً على الجميع، بما يفضح العقد نفسه. وفي ظل ابتزاز يهدّد بسحب ما تبقى من ضوابط مؤسسية، تقوم الفضيحة على التهديد بتركيب المحاكم الشعبية، عشوائياً.

وقع الطبيب عصام المخلوف ضحية هذين المنطقين وصورتهما، صورة النقيب المبتزّ وصورة الطفلة الفضيحة. وتحت وطأة الصورتين، بات مذنباً مهما حصل أو قد يحصل. هذا ثمن الفضيحة، لكنّه أيضاً ثمن الابتزاز. سيقوم أصحاب الضمائر المؤسستية بالمطالبة بحلول عقلانية لهذه المسائل. غير أنّهم غير قادرين على تفسير فشل حلولهم، كما أنّهم غير قادرين على تفسير أنّ الحل المؤسستي بات مشروطاً بحملة فضائحية تفرضه على المبتزّ. ميشال سماحة، الذي يتشارك فيه المحامي والطبيب الموقوف، خرج شبه بريء على يد آخر مؤسسة كانت تحظى ببعض الثقة. ولا شيء يقف أمام عودته إلى السياسة غير سلاح الفضيحة. وقد لا يمكن وقف أي من هذه الممارسات، لكنْ قد يمكن منع أصحابها من أن يسعدوا بها. إنّه انتصار بسيط، لكنّه كل ما تبقى في مملكة ابتزاز-الحد-الأدنى.

فخطر الفضيحة ليس فقط في عشوائيتها وشعبويتها، بل هو في كشفها عقد الابتزاز وفراغ مؤسساتنا. وقد يشكّل هذا الفضح مدخلاً لسياسة أكثر عقلانية أو إنسانية، أو مجرّد تأكيد لحالة الفصام الاجتماعي. فالفضيحة، في هذا المعنى، «تمرين» لغوي على حالة الحرب الأهلية. وإذا كنّا سنطمر أشياءنا تحت النفايات تبعاً لابتزاز البعض، فلنقم، على الأقلّ، بفضحها كما هي، إذ لم يعد هناك ما يستحق الدفاع عنه أصلاً.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة