الجمعه ١١ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: حزيران ١٧, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
جدلية العدالة والحرية في الثورات المصرية! - صلاح سالم
الأخطر من كل ردود الأفعال الدولية على أحكام الإعدام التي أصدرها القضاء المصري، إذ رآها البعض مسيسة تفتقد العدالة القانونية، هو ما كشفه المستشار محفوظ صابر، وزير العدل المُقال، في حديثه عن ابن جامع القمامة (الزبال)، من استمرار غياب العدالة الاجتماعية، رغم كل موجات الثورة التي يبدو أنها لا تزال عاجزة عن طبع آثارها السياسة والاجتماعية في أوضاع البلاد.

تحدث الرجل عن صعوبة أن يكون ابن جامع القمامة قاضياً بدافع من بيئته الموروثة، كاشفاً عن بنية عقلية تنتمي إلى مراحل سابقة في التاريخ الإنساني، كان الإنسان فيها خاضعاً لموروثه الاجتماعي الممتد من الأب إلى الجدود.

رحل الوزير عن منصة العدالة، التي حاول من فوقها تكريس الظلم، مشيعاً بإدانة الضمير العام في مصر، ولكن تظل المعضلة قائمة، فالرجل لم يفعل سوى الكشف عما هو قائم ومعروف ومسكوت عنه منذ ثلاثة عقود على الأقل، لم يكن فيها ابن الزبال أو العامل أو الفلاح أو حتى الموظف الصغير قادرين على الولوج إلى منصة القضاء أو دواوين الشرطة، أو أروقة الديبلوماسية، بل البنوك والصحف الكبرى، بعد أن سادت آفة توريث الوظائف، بفعل عوامل الأنانية المجتمعية، والحس الفئوي مع تفتت الحالة الثقافية الرفيعة التي صنعتها ثورة يوليو، التي يتبدى يوماً بعد يوم وكأنها الثورة الاجتماعية الكبرى في تاريخنا المعاصر، على رغم أن من قام بها لم يكن سوى ضابط وطني على رأس نخبة من زملائه في دفعة 1937م حربية التي قُبل فيها أولاد الفلاحين للمرة الأولى، أعقاب توقيع معاهدة 1936، وذلك ضد بنية هيمنة معقدة من الأسرة العلوية والاحتلال البريطاني والعفريت الإخواني والوحش الإقطاعي، سعياً إلى بناء دولة وطنية حديثة، وعادلة، رغم استبدادها. بالمصادفة البحتة، لم يكن هذا الرجل سوى ابن لبوسطجي من قلب الصعيد الجواني، ولكنه ذلك البطل الذي تمكن من حرث التربة المصرية وإعادة استنبات الحياة فيها لتثمر مساواة وعدلاً وتصنيعاً وتقدماً اجتماعياً، ونمطاً جديداً للحياة، لا يحصل فيه الطفل على تعليم مجاني فقط، بل يحاسب ولي أمره لو أهمل في إرساله إلى المدرسة.

ولا يحصل فيه الخريج على وظيفة فقط بل يتمكن من تأجير مسكن يتزوج فيه من زميلة الجامعة التي أحبها من دون انتظار عشر سنوات تذبل فيها مشاعره، أو اضطرار لسفر طويل يفقد خلاله ثقافته المتفتحة، ويعود محملاً بجرثومة سلفية محافظة، مع روح كئيبة وثقل ظل مرعب، وربما ذقن منسدلة على صدره. لقد ارتبط الناس بهذا العصر ارتباطاً عميقاً، وأحبوا الرجل الذي صنعه حباً حقيقياً، لأنه منحهم أفقاً واضحاً للأمل، ونمطاً جذاباً للحياة، صحيح أنه لم يكن شديد الثراء مادياً ولكنه بالغ التقدمية اجتماعياً، على نحو مكَّن ابن الجنايني من الزواج من ابنة الباشا، مع احتساب فارق الخيال السينمائي، وخصم جماليات الفن من الفيلم المصري الشهير «رُدَّ قلبي».

نجح جمال عبدالناصر في صوغ ذلك النموذج لأن رؤيته بلغت من الوضوح حد الحسم، إذ استند نظام حكمه إلى تحالف (قوى الشعب العامل)، أي الطبقات المصرية الأكثر فقراً من العمال والفلاحين، الذين اعتبرهما بمثابة التجسيد الموضوعي للشخصية المصرية عند منتصف القرن العشرين، تلك الشخصية التي تم قهرها بفعل مراحل متوالية من الاستعمار المملوكي- العثماني- الغربي. وعلى رغم أن ثمة أخطاء، وملابسات هزمت النموذج الناصري. وأن ثمة عوامل أهمها تفاوت الحجم الديموغرافي، بين مصر الخمسينات والآن، تحُول جميعها من دون استعادة الهيكل العام له، فإن ما يمكن استعادته منه اليوم وغداً ودائماً هو حس العدالة الكامن فيه، كي يظل الطموح قائماً والأمل متوثباً في صدور البسطاء، للحصول منهم على أجمل ما فيهم، على نحو يضيف إلى رصيد الإبداع والإنجاز المصري، بدلاً من عمليات التوريث الفئوية، التي أغلقت دائرة النخبة على نفسها، وجعلت منها بركة راكدة، حتى صار لدينا الأسوأ في كل المهن تقريباً، ناهيك عن أنها مثَّلت المقدمة الطبيعية، بل الثمن المدفوع مقدماً للوراثة الكبرى (السياسية)، التي قادت مصر إلى أفق مسدود، أحتاج إلى ثورتين للنفاذ منه من دون نتيجة حاسمة حتى الآن.

والمؤكد أن 25 يناير و30 يونيو لن يستحقا أبداً وصف (ثورة) إن لم يستعيدا حيوية العقل المصري ويتمكنا من بناء طبقة وسطى عريضة ونابهة، تنهض على فضيلة العلم وتعلي قيم الاجتهاد، وترعى مسيرة الكفاح الوطني، وتستنير بنور الثقافة الإنسانية. وإذا كان ذلك أمراً غير ممكن من دون تعليم جيد، فإنه غير ممكن كذلك من دون تمكين للمتعلم، بحيث تتفتح أمامه دائرة الطموح الوظيفي والترقي الاجتماعي، طالما كان موهوباً ومجتهداً فقط، فكل سبب آخر ليس إلا عرضاً لمرض، يكشف عن مجتمع منافق، وثقافة راكدة، ودولة آيلة للسقوط.

تعلق الناس بالمشير السيسي، كما تعلقوا بعبد الناصر، منذ تبدى لهم رجل قادر على إزاحة «الإخوان» من حكم توهموا قدرتهم على فرضه بالقوة، وإدامته إلى زمن غير محدد، وقد فعل ذلك رغم ضغوط خارجية أميركية تشبه الضغوط التي أفرزتها بريطانيا ضد ناصر قبل ستة عقود. غير أن شعبية السيسي أخذت في التراجع سريعاً، عكس ناصر، ما يمكن ملاحظته بالعين المجردة، حيث افتقد الرجل للقدرة على الحسم، إن على صعيد تحقيق العدالة ما أفقده تعاطف جماهير كثر لم تكشف عن تحولاتها النفسية بفعل المعركة مع الإرهاب، وإن على صعيد تكريس الحرية، ما أفقده تعاطف جزء كبير من نخبة 30 يونيو، فيما يبدي الجزء الباقي منها تململاً، يتردد في الإفصاح عنه بدافع المعركة نفسها مع الإرهاب و «الإخوان».

من المؤكد اختلاف السياق الذي جاء فيه الرجلان، حيث تدفع العقود الستة الفاصلة إلى مزيد من الطلب على الديموقراطية السياسية، مثلما تفرض قيوداً على هدف إنجاز عدالة اجتماعية شاملة، بالأدوات الاشتراكية أو رأسمالية الدولة القائمة على تأميم المصانع وإعادة توزيع الأراضي الزراعية، في ظل نظام رأسمالي عالمي، وحاجة مصر لاستثمارات عربية ودولية. ولكن المشكلة تكمن في تردد الرجل على الجبهتين معاً، فلا هو حاسم في الحركة نحو الحرية على نحو تبدى في تفصيل قوانين الانتخابات البرلمانية مع تأخير صدورها، ولا هو جازم في التوجه صوب العدالة بأي صيغ ممكنة، على نحو تبدى في تراجع الدولة أمام مطالب رجال الأعمال، وسماسرة البورصة التي ألغت لهم ضريبة الأرباح المضافة، ناهيك عن إلغاء ضريبة الأغنياء (5 في المئة)، في مقابل جرأتها إزاء الفقراء والطبقة الوسطى، خصوصاً برفع دعم الكهرباء والمحروقات، ومن ثم ينبع الخطر، فالمجتمعات لا تصبر على واقعها السيئ إلا بالأمل في ما هو أفضل، وهو أمل لم تتضح آفاقه في مصر حتى اليوم، حيث الحرية لا تزال بعيدة، والعدالة لا تزال غائبة. 

* كاتب مصري



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة