تقدّم الهجمات التي وقعت في فرنسا بين 7 و9 كانون الثاني الماضي، ثم في كوبنهاغن في 14 شباط الماضي، نموذجاً عن طريقة عمل الجيل الثالث من الجهاديين. إنه يستهدف أوروبا في شكل أساسي، والتي يعتبرها بمثابة نقطة الضعف في الغرب، عبر تجنيد القتلة من المتروكين أو من الجانحين الذين ينتمون في شكل أساسي إلى الشباب المسلم المهاجر - والذين يتشرّبون العقيدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويصبحون متشدّدين في السجون، وفي حالة بعضهم، يتدرّبون عسكرياً في صفوف تنظيم "داعش" في سوريا والعراق اللذين يقعان على مسافة ساعات فقط من العالم القديم.
بعد الجهاد في أفغانستان في ثمانينات القرن العشرين، وما أسفر عنه من تداعيات سلبية في الجزائر ومصر والبوسنة والشيشان خلال العقد اللاحق، أحدث جيلٌ ثانٍ، هو جيل "القاعدة"، تغييراً في الاستراتيجية عبر شن هجوم على أميركا في 11 أيلول، وما أعقبه من اعتداءات في مدريد وبالي ولندن، ثم عبر محاولة فرض فيتنام إسلامي على الولايات المتحدة في العراق. وقد مني هذا الجيل أيضاً بالفشل. وهكذا فإن التمعّن جيداً في هزيمة بن لادن والظواهري هو الذي دفع بأبي مصعب السوري إلى أن يُطلق عبر الإنترنت، منذ كانون الأول 2004، دعوته إلى المقاومة الإسلامية العالمية، أي نموذج البيزنس الجهادي الثالث الذي ينكشف أمام أنظارنا.
وقد شكّل إنشاء موقع "يوتيوب" بعد شهرَين، في 14 شباط 2005، قبل عشرة أعوام بالضبط على هجمات كوبنهاغن، الشرط الضروري لتحقُّق هذا النموذج الجهادي، إذ أتاح تلقين العقيدة لهؤلاء الشبان الجهاديين بصورة سريعة، حتى خارج شبكة المساجد المتشدّدة، كما زرع نظريات اللغة والصور المألوفة في نفوس هؤلاء الشباب المعولَمين الهجائن الذين ولدوا في أوروبا إنما تشرّبوا هوامات الأصولية الإسلامية المتشدّدة.
بالنسبة إلى هذا الجيل الثالث، لم تعد أميركا القوية جداً والبعيدة عن الأراضي المسلمة الهدف الأساسي للجهاد ضد الغرب، بل أصبح الهدف أوروبا، الأكثر ضعفاً وانقساماً، والأقرب، وعلى وجه الخصوص، المأهولة بعشرات ملايين المسلمين غير المندمجين جيداً، بحسب السوري، والذين يشكّلون مصدراً هائلاً للتجنيد. لقد تبيّن أن النموذج الهرمي لتنظيم "القاعدة"، حيث كان بن لادن يسدّد ثمن تذاكر السفر ودروس قيادة الطائرات، وكان يُحدّد أهدافاً كبرى ويرسل مقاتلين أجانب لتنفيذ المهمة، غير فاعل وعفا عنه الزمن، بعد تبدُّد مشاعر الذهول والصدمة التي أثارتها أحداث 11 أيلول. كان بن لادن والمنظّر العقائدي الظواهري يعتقدان أنه عبر ضرب برجَي مركز التجارة العالمي والبنتاغون، ستظهر أميركا بأنها مجرد مارد قدماه من طين، وبهذه الطريقة يحشدان الجماهير المسلمة التي لن تخشى بعد ذلك أن تنتفض، خلف راية الجهاد، ضد أنظمتها الموالية للغرب - في حين أن هذا الخوف، كان بحسب بن لادن والظواهري، السبب في فشل جهاديّي الجيل الأول في نهاية تسعينات القرن العشرين. لكن هجمات 11 أيلول سمحت لجورج دبليو بوش بحشد التمويل والدعم السياسي والعسكري لـ"حربه ضد الإرهاب" التي أدّت إلى تفكيك "القاعدة" وألحقت بها هزيمة واضحة، من دون أن تنتفض الجماهير المسلمة. فضلاً عن ذلك، فإن الهيمنة التكنولوجية الغربية أدّت، بحسب السوري، إلى الانهيار الحتمي لتنظيمٍ يستخدم الاتصالات السلكية واللاسلكية والتحويلات النقدية.
في مقابل هذا النموذج التنظيمي من الأعلى إلى الأسفل، أنشأ السوري نظاماً من الأسفل إلى الأعلى مستنداً إلى الشبكات. وأعطى الأفضلية لنوعية الموارد البشرية، بفضل تلقين العقيدة والتدريب العسكري المكثّفَين اللذين سمحا بتحديد إطار تشغيلي بسيط لجهاديّي الجيل الثالث. فقد أصبح بإمكان هؤلاء الجهاديين اختيار أهدافهم على هواهم - وبهذه الطريقة لا تتمكّن أجهزة الاستخبارات الغربية والتكنولوجيات التي تستخدمها، من فضح أمرهم - عبر مضاعفة الهجمات القليلة التكلفة إنما الاستفزازية جداً التي من شأنها أن تطلق الحرب الأهلية المذهبية في أوروبا، بما يؤدّي إلى إحباط القارة الأوروبية تمهيداً لغزوها. يفضّل السوري ثلاثة أنواع من الأهداف التي اختيرت انطلاقاً من قدرتها على تعميق التصدّعات الثقافية: المفكّرين الليبراليين المناهضين للإسلاميين، واليهود (إنما خارج الكنس)، والمسلمين "المرتدّين" الذين يرتدون لباس "الكفّار". وقد لقي هذا المخطّط طريقه إلى التنفيذ الكامل في باريس في كانون الثاني الماضي من خلال استهداف الفئاث الثلاث أعلاه متمثّلةً بـ: رسّامي الكاريكاتور في أسبوعية "شارلي إيبدو"، وزبائن المتجر اليهودي Hyperkasher، وشرطي من أصول مسلمة جزائرية. قبل ذلك، في آذار 2012، قتل محمد مراح جنوداً فرنسيين اعتقد أنهم جميعاً من شمال أفريقيا، وتلاميذ في إحدى المدارس اليهودية وأستاذهم؛ وقبل أن يطلق مهدي نموش النار في المتحف اليهودي في بروكسل في كانون الأول 2013، كان حارساً وجلاداً للرهائن الذين كان تنظيم "داعش" يحتجزهم في سوريا. وفي كوبنهاغن أيضاً، استهدف الهجوم الأول مفكّرين ليبراليين - تجمّعوا تضامناً مع أسبوعية "شارلي إيبدو" التي كانت قد أعادت عام 2005 نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد نقلاً عن الصحيفة الدنماركية "يولاندس بوستن" - فيما استهدف الهجوم الثاني كنيساً في خطوة جديدة تشهد على المتغيِّر الشخصي الذي يمكن أن يضيفه كل جهادي على التعليمات العامة.
نشر السوري الذي كانت له مسيرة طويلة مع تنظيم "القاعدة" - كان مسؤولاً عن العلاقات العامة في فريق بن لادن - نظريته عبر الإنترنت عندما كان فاراً في باكستان، مباشرةً قبل القبض عليه واستجوابه من قبل القوات الأميركية من ثم "تسليمه" إلى نظام بشار الأسد. سرعان ما أصبحت هذه النظرية معروفة، وقد قام كاتب هذه السطور بعرض أبرز ما تضمّنته وترجمته عام 2008 في كتابه "أبعد من الإرهاب والشهادة" (Beyond Terror and Martyrdom) الصادر عن مطبعة جامعة هارفرد. بيد أن معظم المراقبين اعتبروا أن الأفكار التي عبّر عنها السوري في نظريته "غير مهمة"، إذ اعتقدوا أن هزيمة "القاعدة" تعني نهاية الجهادية، قبل أن يتوقّعوا أن الانتفاضات العربية التي انطلقت عام 2011 تحمل معها الوعد بانتشار الديموقراطية على الطريقة الغربية في المنطقة. إلا أن الفوضى التي تسبّبت بها إحدى هذه الانتفاضات - في سوريا، مسقط رأس السوري - هي التي وفّرت الظروف المادية التي سمحت بالانتقال، في غضون عقدٍ، مما بدا أنها عقيدة غامضة إلى السؤال عن مسار التحرك الذي يجب أن تسلكه جهادية الجيل الثالث.
ففي غضون عشر سنوات، أتاح حدثان الانتقال إلى الفعل. الحدث الأشهر هو أن نشر العقيدة بات ممكناً من طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي نمت وتطوّرت خلال هذه الفترة. وبعدما حشدت هذه العقيدة عشرات آلاف الشباب حول العالم، لا سيما في أوروبا، ضد الفظائع المرتكبة بحق الشعب السوري والتي تُعرَض عبر موقع "يوتيوب"، استُخدِمَت تقنيات بارعة لتصيُّد الأشخاص عبر الإنترنت من طريق الدين، ما أتاح تجنيد العناصر من خلال موقعَي "فايسبوك" و"تويتر" من دون المرور بالمساجد المتشدّدة التي تخضع للرقابة من الشرطة. الحدث الثاني هو ظهور ساحة المعركة الأساسية للجهاد، تحت رعاية "داعش"، على بعد ساعات فقط جواً انطلاقاً من باريس أو بروكسل أو لندن، والتي يقصدها الجهاديون الشباب، على متن خطوط جوية مخفّضة الأسعار، بهدف التدرّب قبل أن يُزرَعوا من جديد في مجتمعاتهم الأوروبية.
لكن القوة الظاهرة لجهادية الجيل الثالث غير المهيكَلة تحمل أيضاً في طيّاتها مكمن ضعفها الشديد. أولاً، يجد معتنقو هذه الجهادية صعوبة كبيرة في الانسحاب من التواصل في العالم الافتراضي، وقد سمحت آلاف الرسائل ومقاطع الفيديو التي ينشرونها يومياً عبر الإنترنت بجمع معلومات عنهم تتخطّى بأشواط كبيرة ما توصّلنا إلى معرفته عن تنظيم "القاعدة" بعد عام على هجمات 11 أيلول. من جهة أخرى، فإن حرية التحرك النسبية المتروكة للعناصر، في غياب عقيدة استراتيجية تسيطر عليها سلسلة من القادة، شجّعت على ارتكاب أعمال وحشية جداً إلى درجة أنها تثير نفور المتعاطفين المحتملين مع هذه الجهادية. وهكذا بعد حرق طيارٍ أردني ينتمي إلى عشيرة سنّية كبرى حياً، دعا شيخ الأزهر إلى قتل هؤلاء "البغاة" وصلبهم وتشويههم، لأنهم يهدّدون، بحسب العقيدة الإسلامية، جماعة المؤمنين عبر تعميق خطوط التصدّع في وسطها. في المقابل، وكما أظهرت التظاهرة الوحدوية الكبرى في باريس في 11 كانون الثاني الماضي، لم يقع الشعب الفرنسي في فخ الجهاديين، بل على العكس، أراد أن يُعيد، في وجه خطر التجاذب المذهبي، إحياء قاعدة من القيم العلمانية المشتركة حيث يشغل المسلمون الفرنسيون مكانهم كاملاً شرط أن يتشاركوا هذه القيم. ومن الآن فصاعداً ينبغي على المؤسسات الأوروبية في مجملها أن تأخذ هذه المهمة على عاتقها.
باحث فرنسي في الإسلاميات
|