مع تدمير آثار دينية وثقافية في متحف الموصل، ومن قبله حرق آلاف المخطوطات النادرة، شذّبت مجموعات «داعش» صورتها بوصفها «الشر المطلق»، متفوقة على ذاتها في دفع حدود المعقول والمقبول، والتي باتت كحدود المنطقة، فواصلَ وعتباتٍ ومستويات تنتمي إلى عصر انتهى. ومع كل خطوة تخطوها «داعش» نحو إطلاقية هذا الشر، يُطرح السؤال المعرفي عن طبيعة هذا التنظيم ودافعه اللذين يبدوان وكأنّهما لا ينتميان إلى زماننا، أو على الأقلّ إلى زماننا كما نحب أنّ نتخيّله. وإحدى سمات هذه الصورة عن الحاضر التي اعتدنا عليها غيباً، ليست الشرّ في العالم، بل «الشرّ غير المفسّر» الذي يشكّل خطراً بسبب عدم انتظامه داخل خطاباتنا التطبيعية.
فهل داعش «استثنائية»، أي غير قابلة للانتظام داخل التفسيرات المعتادة، وهل تنذر بعالم جديد، على الأقلّ على صعيد المنطقة؟ هذا ما نفاه مُطلق الجدل حول طبيعة «داعش» الإسلامية، الصحافي غرايم وود في مجلة «آتلانتيك» (آذار/مارس ٢٠١٥)، مع استنتاجه أنّ داعش «إسلامية»، ولأفعالها صدى في التراث الإسلامي. ففي مقال عنوانه «ماذا تريد «داعش» فعلياً؟»، يفسّر الكاتب أفعال التنظيم من خلال أقواله التي تحدّد مشروعه كعودة إلى إسلام القرن السابع. وإذا قبلنا بالقول الداعشي، زال الإستثناء، لتصبح أفعال التنظيم الجهادي مفهومة، إنْ لم تكن قابلة للتوقع لمن يقبل بالعودة إلى النص. الاستثناء، في هذا المعنى، نتيجة فرضية خاطئة عن زوال الدين من الحيز العام، و»داعش» ليست إلا تصحيحاً لنظرتنا عن حاضرنا وذاتنا.
وُوجِهت مقالة «آتلانتيك» بردود عدة، رفضت محاولة تلخيص «داعش» بأقوالها. فإسلامية «داعش»، إذا فهمنا هذا القول كإقرار بأنّها تشكّل تفسيراً ما للتراث الإسلامي، لا تعني شيئاً بحد ذاتها. فهناك تفاسير أخرى لهذا التراث، وتفسير تنظيم الدولة لا يعبّر عن آراء غالبية المسلمين. يمكن، في هذا المعنى، استنتاج العنف من أي تراث ديني أو أيديولوجي، وهذا ليس حكراً على الترات الإسلامي. فالسؤال ليس هنا، بل في الشروط الموضوعية التي سمحت لتفسير ضيق كهذا بأن يتعدّى حدوده الأقلوية لكي يصبح قوة سياسية فاعلة. وسبب التوسّع هذا ليس في الإسلام أو المسلمين، بل في سقوط منظومات الدولة في العراق وسورية، ومن ثمّ الإحباط السنّي الذي نتج من تلك التجارب، ما أمّن شروط صعود هذا التيار. ليس من الضروري أخذ كلام «داعش» على محمل الجد، لأنّها مجرّد ظاهرة أو عرض للخطيئة الأولى التي شكّلتها الحرب على العراق، بحسب منتقدي مقالة «آتلانتيك». ليس من استثناء يُطبّع بالعودة إلى الإسلام، لأنّه ليس من استثناء أصلاً.
الخلاف حول محاولات تفسير ظاهرة «داعش» ليس معرفياً، بل سياسي، أي يتعلّق بكيفية محاربة هذه الظاهرة من خلال توجيه الغضب الناتج منها نحو أسبابه «الفعلية». إنّه تفسير حربي إو سياسي يترواح بين حدّي إصلاح الدين أو مقاومة سياسات الولايات المتحّدة، التي ورثناها منذ ما يوازي العقدين. «داعش»، الغائبة عن هذا النقاش، لم تكسر هذه الثنائية على رغم عنفها، وما زالت رهينة اصطفافات حروب العراق وثنائياتها. إنّها مجرّد تكثيف لسيرورات موجودة. هكذا طُبِّع أو فُسِّر الشرّ من خلال تنظيمه في إحدى الروايتين، ويمكن استكمال الخلاف ذاته على وتيرة إصدرات «داعش» المتسارعة.
غير أنّ إزعاج «داعش» يكمن في أنّ التنظيم يتعدّى حدود هذه الثنائية. فقد يكون نابعاً من تفسير متطرف وأقلوي للتراث الإسلامي، بيد أنّه بات لاعباً أساسياً في المنطقة، تخطى الحدود المعتادة لظاهرة العبادة هذه، الموجودة في سائر الأديان. وهو قد يكون نابعاً من تحوّلات لمنطقة، لكنّه لا يتلخص بشروط إمكانيته، بل بات يؤسس لنمط جديد من العنف قد لا يزول مع زوال تلك الشروط. بكلام آخر، هناك فائض لا ينتظم في التفسيرات المطروحة، يمكن الإشارة إليه من خلال تعدّد الإشاعات التي تحاك حول هذا التنظيم، وآخرها، خبر تقديم «داعش» وجبة طعام لأمّ، والوجبة مكونة من بقايا ابنها. وهو خبر تناقلته بعض وسائل الإعلام الأجنبية، فأعاد هذا المشهد تجديد الصور المستقاة من تراث التراجيديات الكلاسيكية وتطبيقه في مشهد الموصل.
ربّما كان المطلوب قلب السؤال وعدم البحث عن تفسير لـ»داعش»، أو لسرّ استثنائيتها أو عدم استثنائيتها. فنموذج تفسير الشرّ غالباً ما قام على محاولة ربط استثنائيته بطبيعية المجتمع الذي يحيط به، إمّا من خلال علاقات إقتصادية أو نفسية أو تقنية، ليصبح للتفسير قوة الفضح أو الكشف عن جذور العنف المستترة في طبيعة الحياة اليومية. وهذه الفرضية قد تكون سبب إزعاج «داعش»، أي أنّها ظاهرة طبيعية لوضع إستثنائي، بات يتخطى شروط إمكانيته. فمقارنة بتاريخ العنف العراقي، الذي وصفه حازم الأمين في مقالته في «الحياة» (1/3/2015)، أو في موازاة العنف السوري، أو تمهيداً لعنف أنظمة محاربة الإرهاب المتجدّدة، تبدو «داعش» «طبيعية» في عالم وزمان إستثنائيين، تُحارب فيهما مجموعة تكفيرية من خلال حملة تحمل اسم «لبّيك يا رسول الله».
تاريخ «داعش» الفعلي مختلط، يتداخل فيه الإسلام مع سقوط الأنظمة، وشبكات الإرهاب مع أنابيب النفط، وأزمة الغرب مع مهاجريه مع شبكات التواصل العالمية، وأجهزة المخابرات مع العشائر المتجدّدة، والإحتلال العنيف مع فساد مقاومته، والهويات القاتلة مع الخطابات الفاشلة، وسعر النفط مع أزمة الجفاف، وغير ذلك من الأسباب. إنّها مركب طبيعي وسياسي وخطابي، لمن لا يريد رهن التفسير بالسياسة. غيرّ أنّ النقاش لا يدور حول التاريخ الفعلي لهذه الظاهرة، بل حول تسييس هذا التاريخ أو استخدام التاريخ لغاية سياسية. وفي هذا المجال، «داعش» إبنة حاضر بات استثنائياً، وتعلّقنا بها ليس إلا من قبيل رفض الاعتراف بهذه الإستثنائية التي لم تعد تدخل في الخطابات التطبيعية.
... ربّما جاء الرد الوحيد المقنع على «داعش» من بطلة «خمسون ظلاً للرمادي»، داكوتا جونسون، في برنامج فكاهي، سخرت فيه من الإرتياب العام بالتنظيم، عندما قالت: «يا أبي، إنهم مجرّد داعش». إنهم مجرّد «داعش» لأنّ المنطقة باتت «مجرّد المشرق العربيّ». |