في حادثة متكررة هذا الشتاء يموت طفل آخر على باب مستشفى في لبنان رفض استقباله لعدم توفر مبلغ مالي يدفع مسبقاً ويضمن له الحد الأدنى من الرعاية الصحية. إنه لبنان نفسه الذي يسوق في المنطقة العربية بصفته قبلة للسياحة الطبية والاستشفائية، الفاخر منها وذلك الذي بـ «التقسيط المريح»، يرفض رعاية أطفاله قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة.
لكن لا بأس، فهؤلاء الذين يموتون هم أبناء الأرياف والأطراف الذين لن يلجأ ذووهم إلى القضاء وإن فعلوا فمن دون كثير جدوى. ذاك أنهم أضعف وأكثر تهميشاً من أن يواجهوا منفردين تكتلات المستشفيات الخاصة وأصحابها، أو محاسبة الدولة عن تقاعسها وعجزها في إقامة نظام صحي عادل لهم ولأولادهم. وإلى ذلك، فهم أيضاً أقل شأناً وتأثيراً من أن تقام حملات تضامن معهم أو دفاع عنهم من هيئات «المجتمع المدني» «المخملي»، الذي بات أكثر انفصالاً عن الواقع من الطبقة السياسية نفسها.
هكذا، يرتفع عدد الأطفال الذين يموتون بلا استشفاء، فتحظى عائلاتهم بلحظة شهرة عابرة في النشرات الإخبارية، علماً أنها قد لا تفضي بالضرورة إلى التعاطف معهم أو التحرك من أجلهم... فغالباً ما يتهمون بالتقصير والإهمال ويؤخذ فقرهم وحرمانهم عليهم مأخذاً. وبشيء من التشاوف الطبقي والطائفي أحياناً، لا يتورع كثيرون عن اعتبار أن «هؤلاء» ينجبون بدل الواحد عشرة.
ذلك مثال بسيط عن حال البلد وناسه بعيداً من الأزمات الكبرى كالفراغ الرئاسي، والانشطار العامودي بين فريقي 8 و14 آذار، أو ما بقي من الأخير.
وبعيداً من مناقشة السياسات الاستشفائية والصحية في لبنان، أو الخوض في تفاصيلها التقنية، يبقى أن الحادثة الأخيرة لوفاة طفلة يجب أن تفتح نقاشاً عميقاً (ومؤلماً ربما) حول المسؤولية الفردية والمسؤولية العامة في التعاطي مع شؤون الناس والبحث في سبل محاسبة المقصرين. فتلك أمور وإن زاد تعقيدها بسبب التقهقر العام الذي يجتاح البلد، لكنها لا تحتاج لرئيس جمهورية يحل ويربط فيها، أو لانسحاب «حزب الله» من سورية، بل يكفيها أحياناً بعض الجدية واحترام الحياة الإنسانية لدى الأطراف السياسية المعنية.
ومناسبة القول أن المستشفى، الذي سجل منذ بضعة أيام آخر حالة وفاة لطفلة، يملكه طبيب (كما غالبية المستشفيات) يفترض أنه أدى قسم أبوقراط، ونكث به، وتلك مسؤوليته الفردية. ولكنه أيضاً نائب في البرلمان اللبناني منذ 2005 عن كتلة المستقبل ويفترض أنه يشرع لنا قوانين نحيا بها، وتلك مسؤوليته العامة ومسؤولية فريقه السياسي من خلفه. ففي بلد كلبنان، حيث لا يمكن اعتبار النائب ممثلاً حقيقياً للقاعدة الشعبية وناقلاً أميناً لهمومها ومدافعاً عنها، تنعكس الأمور فيتحول المشرع ممثلاً للفريق السياسي الذي أوصله إلى منصبه. لذا فإن القول إن الكتل السياسية/ الانتخابية غير مسؤولة عن سلوك نوابها وخياراتهم «الفردية»، لا يستقيم في هذه الحالة. ورحال وزميله النائب السلفي خالد الضاهر هما أبرز من يمثل «تيار المستقبل» في منطقة هي الخزان الأول لذلك التيار طائفياً وانتخابياً منذ عشر سنوات هي عمر اغتيال رفيق الحريري. لكن «الإحراج» الذي تسبب به الضاهر لتياره حين أطلق العنان لمواقف متطرفة دينياً وطائفياً، وأدى إلى عزله من الكتلة النيابية قبل فترة وجيزة، لا يبدو أنه يسري على رحال الذي لا تقل مواقفه رجعية ولا إنسانية إلا بكون مصدرها شخصياً لا دينياً. علماً أن الضاهر قد يكون أكثر تعبيراً عن المزاج السني العام في المنطقة المحرومة التي بات التطرف ينهشها، مما هو رحال، الطبيب الأرثوذوكسي ابن الطبقة الوسطى.
والحال أن «تيار المستقبل» الذي رفع شعار «الاعتدال» وبذل جهوداً جبارة في الدفاع عنه، مطمئناً المسيحيين تحديداً، لم يعط بالاً إلى شؤون كثيرة أساسية، تطال حياة المواطنين وكراماتهم (من ناخبيه تحديداً)، ويخالفه فيها كثيرون صبوا أصواتهم في صناديقه لظروف الأمر الواقع. فغداة الاغتيال المشؤوم في 2005، التف جزء عريض من اللبنانيين حول «الحريرية»، حتى ممن كانوا معارضين لسياسات رفيق الحريري نفسه لا سيما تلك الاقتصادية. وتبلور ذلك في لحظة إجماع وطني نادر يوم 14 آذار(مارس) وما سمي بـ «ثورة الأرز». وطوال عشر سنوات كانت أولوية هذا الجمهور على اختلافه، سياسية وأمنية، أي بمعنى وقف موجة التفجيرات والاغتيالات، ومحاولة منع «حزب الله» من التفرد بالقرار وما يعني ذلك من دعم جهة مدنية سعى إلى إقامة دولة، على جهة مسلحة تفرض شروطها بسلاح خارج إطار تلك الدولة. وجاءت الثورة السورية والتمرغ في وحولها لتشيح الأنظار عن هموم يومية حقيقية. وعليه، قبل كثيرون على مضض بما لا يمكن القبول به من سياسات عامة وسكتوا عن ممارسات بدت كأن المطالبة بها هي ترف في غير أوانه، كما بدا أن أي مساءلة أو محاسبة لذلك الطرف السياسي، هي انتصار صريح لخصمه. فمرت عشر سنوات بمزيد من التشظي والتقهقر والتنصل من المسؤوليات الفردية والعامة من دون أي مراجعات أو تقييم لما سبق.
هكذا، يسارع «تيار المستقبل» للتبرؤ من نائب يخدش صورته عن اعتداله، ولا يتوقف عند نائب يفترض أن يحرجه في جوهر هذا الاعتدال نفسه والقيم التي يدعو إليها. بل على العكس تماماً، وعدنا في شعاره الأخير بالمزيد من ذلك كله لسنوات «عشر ومئة وألف» مقبلة.
* كاتبة وصحافية من أسرة «الحياة» |