تُظهر التطوّرات العسكرية المتسارعة منذ شهر نوفمبر 2014 أن إيران زجّت بعشرات الضبّاط والمستشارين من حرسها الثوري وبآلاف مقاتلي حزب الله اللبنانيّين المتمرّسين في القتال، وبآلافٍ آخرين من المقاتلين العراقيّين والأفغان الهزارة الأقلّ تمرّساً في عددٍ من الجبهات المشتعلة في سوريا بين النظام الأسدي والمعارضة المسلّحة بفصائلها المختلفة. ويتركّز وجود هؤلاء اليوم في محيط مدينة حلب، وعلى امتداد المحاور في ريف دمشق وفي محافظتي درعا والقنيطرة. وكلّف الإيرانيون ضبّاطهم ومسؤولي حزب الله بقيادة العمليات العسكرية وإدارتها ميدانياً. وقد أدّى الأمر الى معارك طاحنة وعملّيات هجوم واسعة فشلت حتى الآن في حلب، إذ لم يتمكّن المهاجمون من إحكام الطوق حول المدينة كما كانوا يُريدون، في حين أنهم أحرزوا بعض التقدّم في الأسبوعين الأخيرين في مثلّث الجنوب، ولو أنه بطيء إن قورن بحشدهم العسكري وبسلاح الطيران الذي يساندهم وبالكثافة النيرانية التي يستخدمونها في المعركة. على أن ما يمكن تسجيله من ملاحظات سياسية بالاستناد الى التطوّرات العسكرية المذكورة يُحيل الى ثلاثة أمور. الأول، أن إيران وحلفاءها غير السوريّين، لا سيّما حزب الله، صاروا يُعلنون رسمياً قيادتهم للمعارك في سوريا، وأن طهران تؤكّد بذلك لواشنطن ودول الغرب أنها المرجع الأوّل في دمشق قبل موسكو. فهي القائدة للآلة الحربية وهي المُنقذة العسكرية لنظام الأسد وصاحبة السلطة الكاملة على القوى المقاتلة في الجبهات الحسّاسة. وهذا يعني بالعرف الإيراني، عشية جولة مفاوضات جديدة حول الشأن النووي والأدوار الإقليمية، أن أيّ حلّ سوريّ إنما يتمّ بالتفاهم مع طهران (وليس موسكو) أو على الأقل بشراكتها الكاملة في صياغته. الثاني، أن الايرانيّين يريدون توظيف قتالهم "داعش" في العراق بمباركةٍ دولية داخل سوريا. وهذا يفترض بالنسبة إليهم أن تُطلق يدهم في سوريا تماماً كما هي مُطلقة في العراق (وكما صارت مُطلقة في اليمن). المفارقة هنا أن لا رقعة اشتباك جدّية واحدة للإيرانيين وحلفائهم مع "داعش" في سوريا، بل على العكس. فبعض المناطق التي يحتلّها مقاتلو "داعش" في ريف حلب الشرقي هي بمثابة الظهر لقواتهم المهاجمة التي تحاول قطع حلب عن ريفها الشمالي. والظهر هذا بدا طيلة الفترة الماضية آمناً لم يشغل قوّاتهم بمناوشة أو باشتباك واحد خلال هجماتهم الواسعة ضد المعارضة. كما أن لا معارك يخوضها الإيرانيّون أو حزب الله مباشرة في دير الزور حيث نقاط الاشتباك مع "داعش" مهمّة استراتيجياً لقربها من العراق ومن صحراء تدمر التي يستخدمها التنظيم لنقل قوات الى بعض مناطق حمص ونحو أطراف الريف الدمشقي الشرقية. الأمر الثالث، أن تركيز الجهد الحربي الإيراني الحزب إلهي في الشهر الأخير في وجه "الجبهة الجنوبية"، وهي تجمّع القوى الأقرب الى الواقع الشعبي السوري المعارض، إن في درعا أو في القنيطرة أو في الريف الدمشقي، إنما هو إعلان حربٍ صريح ضد "الأكثرية" السورية – بعد سنوات من الإعلان المبطّن – يستكمل ما جرى في القصير وحمص، ويهدف الى توسيع طوق النجاة حول دمشق جنوباً بعد تأمين السيطرة على المناطق المفضية الى الحدود اللبنانية غرب العاصمة السورية والى الساحل السوري شمالها، مع ما يتطلّبه الأمر من تهجير وتعديل في الديموغرافيا المذهبية. وكل هذا يُناقض ادّعاءات طهران وحزب الله قتالهما "التكفيريّين" في سوريا، على ما يقولان بين الحين والآخر للإستهلاك الإعلامي وللتواصل مع واشنطن. فـ"التكفيريّون" يبدون حلفاءهم الموضوعيّين، الشديدي الفائدة لهم ميدانياً في حلب، وقد يُصبحون كذلك في الغوطة الشرقية إن استمّر تسلّلهم إليها واصطدامهم ببعض القوى المعارِضة فيها بما يُشتّت الأخيرة ويُضعف تركيزها العسكري. والأخطر بالطبع، أن الطور الجديد من الاندفاع الإيراني في سوريا يرفع وتيرة التوتّر السنّي الشيعي الى مستوى غير مسبوق. وهو يخلق واقعاً جديداً مؤدّاه قتال جميع الفصائل العسكرية (السنية) السورية، مؤدلجةً إسلامياً كانت أو وغير ذلك، تحت المسمّى الداعشي، بما يصبّ لصالح "داعش" إعلامياً إذ يضخّمه، ويصبّ لصالحه ميدانياً أيضاً إذ يستنزف من قاتله فعلياً على مدى عامين.
يقودنا ما سبق الى القول إن لبنان، رغم الحوار ومحاولات الوصول الى تسويات رئاسية وحكومية فيه، قد لا يبقى طويلاً بمأمن عن بعض تداعيات الطور الجديد من انخراط "حزبه الحاكم" في الأتون السورية، خاصة إن تبدّلت المعطيات الإقليمية بعد وصول الحدّة المذهبية في المنطقة ككل الى مرحلة أشدّ عنفاً... فهل ثمة من يعي ذلك ويُدرج سبل التعامل معه ضمن برنامج الحوار القائم؟
|