لخصت ذكرى الثورة المصرية وضع الثورات العربية بعد أربع سنوات على انطلاقها. ففي أقلّ من شهر، قُتِلت الناشطة شيماء الصباغ وهي في مسيرة سلمية، وصدر حكم بسجن ماهينور المصري ومن ثم علاء عبد الفتاح، ونزلت مذبحة بمشجعي «الزمالك»، شبيهة بما حدث بـ «ألتراس» قبلهم. وبينما لايزال الرئيس المخلوع محمد مرسي يقبع في السجن بتهمة التجسّس لحساب قطر، أُطلق سراح نجلي الرئيس المصري الأسبق، وهذا في مناخ شعبي بات أسير خطاب «الحرب على الإرهاب». إنّها لحظة تحلل الثورة، حيث يبدو أن التاريخ يمشي عكس «ملاك التقدّم» لبنيامين، وجهه متجه نحو مستقبل يزول، ورياح تدفعه غصبًا نحو ماضٍ اعتقد أنّه تخطّاه.
وحول هذا السير العكسي، صدى لكلام عن الثورات بقاموس جديد تتصارع فيه عبارات الأسى مع نعوت الفشل والأحاسيس بالخيبة والإحباط، إن لم يكن الغضب حيال ثوار فشلوا في مهمتهم التاريخية. وبالطبع، هناك ضحكة صفراء تحوم فوق المشهد، نابعة ممن لم يؤمنوا بالثورات، حتى في أيامها الأولى. أمّا من يستمرّ بالدفاع عن هذه اللحظة، فبات عليه تجنيد مخيلة مشيحانية للقفز فوق واقع لا يشير إلاّ للخراب والانسداد. باتت آلاف الكتب والمقالات التي هلّلت للثورات تُقراء عكسيًا، من خاتمتها رجوعاً إلى بدايتها، كتحف أركيولوجية، من الصعب فهم مغزاها أو لغتها عملاً بالحاضر الجديد - القديم.
الثورات أصبحت خارج النقاش، الذي يدور حول دروسها، أي مستقبلها، أو وجودها، أي ماضيها. ففي نعيهم الناشطة شيماء الصباغ، اضطر «الاشتراكيون الثوريون» للتأكيد على ثورية يناير ٢٠١١، «رغماً عن محاولات اغتيالها وتشويهها بإعلام كاذب واستبداد أمني تجاوز كل الخطوط الحمر» (٢٠١٥/٠١/٢٤). وهذا التأكيد إشارة إلى أنّ معركة الثورات باتت في جانب منها معركة تاريخية حول طبيعة الحدث، أو حتى حصوله. فالموقف الرسمي ينفي الفشل لعدم اعترافه أصلاً بوجود الثورات، واضعًا مؤيديها في وجه تحدي استملاك الفشل، كمدخل أخير للتأكيد على «الممكن» الذي شكّلته الثورات في لحظة ما. الفشل، بهذا المعنى، تأكيد الوجود.
والفشل يطرح سؤال النقد ذاتي، أي سؤال العلاقة بين الثورات ومستقبلها الممكن. غير أنّ هذا النقد بات أيضًا بخطر، وهو خطر طمسه تحت تراث الخيبة التي عرفتها المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، والتي لا تترك لثوار الحاضر مكاناً فيه أكثر من كومبارس يعيـــد تلاوة نص لم يكتبه ولم يدرِ به أصــلاً. فشل جيل الحاضر في تخطي آبائه، فعادت منظومة فكرية من ماضيها لتقف مجدداً كمستقبل للحاضر أو كـ «لا - مستقبل» لحاضر لم يتغير.
التأكيد على الفشل يتطلب التأكيد على طابعه الجديد وعلى نقده الخاص، الذي رغم كل شيء، ليس مجرّد إعادة للتاريخ. فالنقد الذاتي بعد الثورات ليس نسخة مجدّدة عن النقد الذاتي بعد الهزيمة، ويحتاج إلى إعادة تعريف ليس فقط لهذا النقد، بل أيضًا لموقع وهوية الذات الناقدة والمنقودة في آن. فإذا كانت الذات المهزومة نابعة من مشروع ثوري اصطدم بحدود السياسة ليكتشف العوائق الاجتماعية والثقافية، فالذات الناقدة لنفسها بعد الثورات نابعة من فعل فضيحة، أظهر أو أعاد إلى السطح رغبة سياسية كانت قد طمستها أنظمة قمعية وخطابات تحديثية وصراعات هوياتية وتلاعبات معرفية. فلم يأت فشل الثورات من انزلاق سياسوي اعتبر أنّ تغيير النظام الحاكم كاف، بل من قلة سياسة أخذت شكل غياب أي تصوّر لكيفية امتلاك الحكم أو لترجمة التحرّكات سياسيًا. بقيت الرغبة غير قابلة للتلبية لافتقار الثوار إلى أدوات السياسة، وهذا قد يكون في جانب منه نتيجة النقد الذاتي الذي سبق الثورات.
وهذا الافتقار ناتج من اختلاف في بيئة هاتين الذاتين. فإذا كان لنقد الذات المهزومة فعل الصدمة لكونه جاء معاكسًا لجو عام من احتفال الذات بذاتها، يأتي النقد الحالي بعد عقود من نقد الذات ومن أشكلة السياسة. فقامت الثورات والنقد يحيطها، بعضهم صادق والآخر منافق، ولم تحظ بفترة طويلة من السماح، إذا استثنينا الأشهر القليلة في بدايتها. فالذات التي خُلِقت بفعل فضيحة كانت ذاتاً منقودة من أيامها الأولى وفي موقع التساؤل، إن لم يكن في قفص الاتهام. لم يكن هناك من صدمة حيال ما آلت إليه الأمور، بل خيبة. هذا لا ينفي النقد الذاتي، بل يعيد طرحه من نقد صادم يريد هزّ المعتقدات، إلى نقد سياسي، ينطلق من الخيبة لإعادة تقييم الماضي.
وإذا كان هناك معنى لهذا النقد، مختلف عن مجرّد تكرار مقولات الماضي، فإنما يكون ذلك في إعادة طرحه في إطاره السياسي. فإذا انتهى نقد الذات المهزومة بالخروج عن السياسة والدخول في مرحلة النقد المعمّم من قبل ذات مجرّدة، فهذا قد يشكّل نقطة انطلاق لنقد الذات المفضوحة، أي العودة من هذا العام المجرّد إلى السياسة وذاتها المادية. فالسؤال ليس عن إصلاح الدين أو طبيعة المجتمعات أو مسؤولية الثقافة أو منظومة «الثورة المضادة» أو الاستشراق أو غير ذلك من العناوين، بل عن كيفية التعاطي معها في ظل سيرورة سياسية. هذا الواقع ليس خفيًا على أحد، لكن الفشل كمن في كيفية تسييسه، أي الإجابة عن أسئلته في مكان وزمان محددين ولغاية سياسية.
وهذا قد يكون ما أشار إليه ياسين الحج صالح في عرضه لتاريخانية عبدالله العروي، وضرورة الانتقال «من مركزية المثال إلى مركزية أفعال المقاومة والترويض الاجتماعية والسياسية والفكرية، هنا والآن» (الحياة، ٢٠/٠٥/٢٠١٤). إنها مطالبة الفكر بعودته من هجرته التاريخانية إلى مستواه السياسي والحي والمعاش، ليس هروبًا من النقد من خلال الانغماس في واقع الصراع، بل إعادة النقد الذاتي إلى مستواه السياسي ودوره في صراع حي ومعاش.
بكلام آخر، بات من الضروري إعادة تحرير الفكر من السياسة، لأجل السياسة والفكر في آن. وإذا بدا المطلوب في الغالب تحرير ابداع الفكر من متطلبات السياسة الضيقة، فقد يكون المطلوب اليوم تحرير السياسة من متطلبات الفكر.
|