أتاحت لي مؤسسة "فريدريش إيبرت" الألمانية فرصة ثمينة بلقاء نخب متنوعة ومتعددة في ألمانيا، للحوار والنقاش حول الموضوع الساخن، الذي لا يحتل الفضاء الإعلامي العربي فقط، بل والغربي أيضاً، وهو تنظيم "داعش"، وما أحدثه من تحولات كبيرة وعميقة في المنطقة العربية؛ كما تأثيراته غير المسبوقة في تاريخ أي حركة تلبس ثياب الإسلام، على الشباب العربي والمسلم في الغرب، أو حتى الشباب الغربي نفسه الذي يعتنق أيديولوجيا وأفكار هذا التنظيم، بصورة لم نجد لها مثيلاً لدى أي حركة "إسلامية" شبيهة سابقاً!
الحوارات كانت مع نخب برلمانية ورسمية وأكاديمية ومثقفة في أكثر من مدينة أوروبية. وبالرغم من تنوّع الموضوعات المطروحة وتعددها، إلاّ أنّ الهاجس الأكبر والاهتمام البالغ لدى هذه النخب جميعاً، يتمركز حول "داعش" تحديداً، وحول جملة من التساؤلات والجدليات المرتبطة بهذا الموضوع؛ يقع في قلبها النقاش فيما إذا كان صعود هذا التنظيم وقوته وتفسير سلوكه العنيف المتوحش وما يتبناه من أيديولوجيا، ناجماً عن الظروف الراهنة، السياسية والمجتمعية، في المنطقة، أم أنّه ناجم عن تفسيرات خاطئة للإسلام، تركّبت عليها الرؤية الأيديولوجية الحالية؟!
هناك فريق يرى أنّ المشكلة تعود إلى تلك التفسيرات والرؤى الأيديولوجية بالأساس. فيما ناقشت وحاججت بأنّها تعود بالدرجة الأولى إلى الظروف الواقعية والسياسية والمجتمعية؛ بدلالة أنّ التنظيم يصعد في المناطق التي تشهد صراعاً طائفياً هوياتياً، وفي الدول والمجتمعات الفاشلة، ويستقطب أعداداً كبيرة من أبناء هذه المجتمعات تحت مطرقة الخوف والشعور باليأس وانعدام الأمل، كما هي الحال في سورية والعراق اليوم. السلوك العنيف ليس حكراً على التفسير السيئ للإسلام؛ فما يقوم به النظام السوري والمليشيات المرتبطة به، يتجاوز في عنفه، كمّاً ونوعاً، ما يقوم به "داعش"، حيث هناك دولة كاملة انهارت، وأحياء دمّرت وأبيدت، وملايين شردت، وعشرات الآلاف قضوا تحت التعذيب في السجون، من دون أن يرتكز هذا العنف إلى تفسير ديني خاطئ، أو رؤية أيديولوجية تبيح ذلك!
هذا لا ينفي، بالطبع، أنّ هناك عاملاً فقهياً ثقافياً حاضراً باستمرار، يرتبط بعدم وجود "ممانعة" فقهية حقيقية في وجه هذا التيار الأيديولوجي التنظيمي. إذ بالرغم من وجود أصوات إسلامية مغايرة تماماً لهذا الخطاب، ورافضة له، إلاّ أنّ حجم قوة الممانعة في الأوساط العامة أضعف بكثير من أن تشكّل سدّاً منيعاً ضد هذا الفكر، ما يدفع بالفعل إلى الاهتمام ببناء حركة فكرية وفقهية إسلامية تعيد بناء الروح الإسلامية الجامعة المتسامحة، وتعيد تشبيك العلاقة بين مقاصد الشريعة والأخلاق والفتاوى الفقهية.
لكن السؤال الأكثر أهمية اليوم هو، أنّه وبالرغم من وجود هذه الأصوات المعتدلة المستنيرة (ويمكن أن نذكر هنا عشرات الأسماء من الفقهاء والعلماء)، إلاّ أنّ آلاف الشباب يذهبون نحو هذا الخطّ الفكري والديني؛ لماذا؟! الجواب على ذلك يرتبط بقراءة تاريخية وواقعية طويلة، لكن بالضرورة لأنّ الوقائع السياسية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تصب جميعاً في صالح التيار المتشدد والمأزوم، لا التيار المنفتح، صاحب القراءة المعاصرة الواقعية!
من الفرضيات التي فشلت في تفسير حالة "داعش"، لكن ما تزال تتبنّاها نخب عربية فكرية، تلك التي تدور حول العامل الاقتصادي، كالفقر والبطالة والإغواء المالي. فهذا العامل، وإن كان حاضراً، إلاّ أنّه أحد تفسيرات الأزمة وأبعادها، وقيمته أقل بكثير اليوم من العامل السياسي المرتبط بالشعور بأزمة الهوية والاغتراب والإقصاء والتهميش وعدم الإدماج، والشعور بانتشار الفساد وغياب العدالة النسبية، وفشل الحكومات العربية في بناء أنظمة ديمقراطية تعددية تدمج جيل الشباب الكبير في الحياة العامة.
الغد |