ليست الصراعات والحروب أخطر ما يهدّد العرب بالانقراض، ولكنها صراعات تكشف حالة الخواء الهائلة التي قد تجعل العرب ولغتهم جزءاً من الماضي، وهي حالة لا يستدلّ عليها فقط بالصراعات والحروب الأهلية، ولكن إضافة إلى ما أشرت إليه في مقالات سابقة مثل المشاركة العالمية والاهتمام الإيجابي بالعالم، والشعور الغالب لدى الأذكياء والمتفوقين بالإهانة، والهجرة الواسعة، وغياب العلاقة بين التديّن الكاسح وتحسين الحياة، يمكن أيضاً النظر إلى الحالات الواسعة والمهيمنة لغياب المعنى والجدوى في السلوك والثقافة والعمارة وتخطيط المدن والموسيقى والشعر، وضعف الشعور بالرضا العام كما يؤشر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وغياب الثقة بالأسواق والمهن، وغياب البوصلة الذي كشف عنه الربيع العربي لدى الحكومات والمعارضات، فلم تكن الحكومات والنخب قادرة على فهم ما يجري من تحولات كبرى، ولم تكن المعارضات تعرف ماذا تريد!
وبالطبع، فإن العدم يساوي عدم إدراك الوجود أو وعيه وعياً صحيحاً، ويكاد هذا ما يحدث بالضبط في عالم العرب اليوم، وإذا كانت المسيحية كما يقول المؤرخون قد اكتسحت الأمبراطورية البيزنطية، فلأنها جاءت إجابة عن أزمة روحية كانت تعصف بأهلها، والأمر نفسه حدث عندما اكتسح الإسلام أمبراطوريتين واسعتين وهائلتين، ويمكن الملاحظة على سبيل المثال أن «تركيا» لم تكن تركية، كانت بلاد الروم، ويشير السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» إلى سلاطينها الأتراك (لا يعتبرهم خلفاء) بوصفهم ملوك الروم. فكيف صار الروم والبيزنطيون تركا؟ كيف صاروا يعرفون أنفسهم بأنهم ترك؟ كيف صارت بلادهم تسمى تركيا؟ كيف حولت قبيلة تركية «السلاجقة» هذا العالم الرومي والبيزنطي الواسع الممتد العريق إلى تركيا؟
وفي المقابل، يمكن أن نستدل عن كيف تحوّل الوعي العربي والإسلامي بالوجود على وقع اكتشاف التقدم الغربي. يقول برنارد لويس: عندما أفاق المسلمون على صدمة التفوق التقني للغرب في بداية القرن الثامن عشر، كان قد سبقهم بأربعمئة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من المدخل التقني، ثم بدأ الحضور والتأثير الغربي يظهران في الحياة الإسلامية في أشياء ومظاهر ثقافية ذات أهمية جوهرية، مثل المساجد واللباس، وهذا يعني أنّ الثقة بالنفس قد اهتزت.
بدأ الحكام في الأستانة والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، فقد استُقدم الخبراء العسكريون الغربيون في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستُخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية «الإفرنجية»، وبدأ تذوّق الموسيقى والفنون الغربية أيضاً، وانتشر اللباس الغربي وأنظمة العمارة في البيوت والقصور والمباني العامة، حتى المساجد صارت تُبنى على الطراز المعماري الغربي.
كان التأثير البصري الغربي طاغياً، كما يلاحظ برنارد لويس، وبدأ في اللوحات الفنية والصور الشمسية ثم في اللباس، وكان لذلك تأثير على الهوية والمعتقدات؛ فالصور والتماثيل التي كانت محرّمة في الثقافة الإسلامية صارت شائعة في القصور والمطبوعات والنقد وطوابع البريد، وانتقل التغيير إلى الجيوش التي صارت جميعها ترتدي أزياء غربية، ثم امتد تغيير اللباس إلى المجتمعات، وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر، يكونون قد اتخذوا خياراً ثقافياً آخر، وقد تكون مقاومة أو قبول تغيير الملابس الذي ظلّ موضع جدال في الشرق أكثر من قرنين تستند إلى هذه الدلالة.
وإذا كانت الأمم والحضارات والمجتمعات كما يقول هيغل، يُستدل عليها بالعمارة والشعر والموسيقى، فهذا يعني أسئلة حول ما لدى العرب اليوم من عمارة وشعر وموسيقى وإن كان ذلك يعكس بالفعل وعياً للوجود والذات، أو إن كان ثمة وعي بما نحب ونتطلع الى أن نكون عليه. كيف نرى أنفسنا وكيف يرانا الشعراء والمعماريون؟..
سأغامر بالقول إن غالبية الذين يخططون المدن والبلدات بشوارعها وبيوتها وأرصفتها وفضاءاتها، وأولئك الذين كتبوا القصائد المغناة والمتداولة في الإذاعات والتلفزيونات، والذين يصنعون الأثاث ويستوردونه ويبيعونه، والذين ينتجون ويوجهون الطعام والغذاء، يبدو كما لو أنهم يعتقدون أنه لا توجد بلاد ومدن، أو كأن الذين يعيشون فيها غير موجودين أو لا معنى لوجودهم. وعندما يغيب الناس والمكان في تصميم المدن والبيوت وتخطيطها، فذلك يعني زوالها في الوعي، ما يعني بالضرورة أنها زائلة في الواقع.
* كاتب أردني |