يــعيـــدنـــا الاعــــتــــــداء الإرهابي على مقر مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية الساخرة في باريس، صباح الأربعاء الماضي، إلى مناخات ما بعد غزوة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن. ذلك الهجوم الذي تبنته منظمة القاعدة حينذاك، وما زال عالم المسلمين يدفع فاتورته إلى اليوم.
قد يكون من الحصافة عدم التسرع في الاستنتاجات قبل انجلاء غوامض الحادث الجديد ومعرفة الجهات التي تقف وراءه. لكننا تعلمنا من التجارب السابقة أن الصورة الإعلامية للحدث في اللحظات الأولى لوقوعه هي التي تبقى ملتصقة بالوعي العام، وتترك آثاراً بعيدة المدى، وتترتب عليها أعمال وترتيبات تصبح جزءاً من الوقائع التالية فتصوغ التاريخ الراهن. على سبيل المثال، لم يؤد انكشاف كذب الادعاءات الأميركية حول علاقة نظام صدام حسين بمنظمة القاعدة، وكذلك حول وجود مخزون من أسلحة الدمار الشامل لديه، إلى تغيير ما جرى من احتلال العراق وإسقاط النظام بهذه الذرائع.
واليوم نحن أمام حدث مشابه لهجمات 11 أيلول، هذه المرة في فرنسا. ضخ الإعلام طوال يوم الحادث واليوم التالي صورةً عنه ترسخت في أذهان الوعي العام كما يلي: عملية إرهابية منظمة ضد مجلة نشرت، قبل سنوات، صوراً كاريكاتورية مسيئة لرموز المسلمين (الرسول محمد تحديداً)، قام بها شخصان مقنعان يحملان رشاشي كلاشنكوف، أطلق أحدهما، بعد إتمام الجريمة، هتاف «الله أكبر» باللغة العربية، وقال إنه انتقم لرسول الله من الإساءة التي لحقت به.
التطورات اللاحقة ساهمت في توكيد صورة الوهلة الأولى: شخص ثالث سلم نفسه للشرطة الفرنسية، قيل إنه متعاون مع منفذي الهجوم الإرهابي الذي ذهب ضحيته 12 شخصاً من كادر المجلة، بينهم 4 رسامي كاريكاتور. كما عرفت الشرطة هوية منفذي الهجوم (شقيقين فرنسيين من أصل مغاربي) بدلالة عثورها على بطاقة هوية أحدهما داخل سيارة استخدماها في العملية.
في مساء اليوم نفسه نزل الفرنسيون إلى شوارع العاصمة بكثافة في مظاهرة تنديد بالجريمة ولإعلان التضامن مع المجلة ودفاعاً عن حرية التعبير.
هذه هي الصورة التي ستترسخ في الأذهان وتشكل أساساً لرسم سياسات الدول في الفترة المقبلة، بصرف النظر عن مدى دقتها: مسلمون متعصبون يرفضون حرية التعبير ويردون على الكلمة والصورة بالرصاص. ولا يتطلب الأمر عناءً كبيراً لإلحاق ال التعريف بأول الكلمة لتصبح «المسلمون» بدلاً من «مسلمون»، نظراً للمناخ المعادي للإسلام، أو فوبيا الإسلام، الذي صدرت عنه أصلاً الرسوم الكاريكاتورية الفرنسية، وقبلها الدانماركية، ونظراً للشروط الدولية القائمة اليوم المتمحورة حول الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما لا يتطلب الأمر كبير عناء لإجراء نقلة إضافية من «المسلمين» إلى الإسلام كعقائد «تحض على العنف أصلاً» كما يزعم الواقفون وراء «الحرب على الإرهاب» قديمتها وجديدتها.
ولا يقل تضليلاً عن هذه المزاعم، مزاعم مقابلة تبرئ الإسلام والمسلمين مما يقترفه، باسمه وباسمهم، «بعض المارقين» منهم. هذا هو موقف مشيخة الأزهر وبعض الدول المسلمة ومن لف لفهم من «العلماء». يمكن الإشارة، من حيث المبدأ، إلى النقاط التالية:
- بالنظر إلى بعض الملابسات التي عرفناها فور وقوع الحادث، لا يمكننا استبعاد وقوف أجهزة استخبارات دول وراءه، أرادت منه تشكيل مناخ ملائم لقرارات سياسية كبيرة (كالحرب مثلاً) بهدف تحقيق أهداف معينة لا يمكن تحقيقها بالوسائل العادية أو بلا ذرائع قوية أمام الرأي العام.
- حتى لو كانت شكوكنا هذه في محلها، فهذا لا يعفينا، كمجتمعات إسلامية، من مساءلة النفس وإجراء مراجعة عميقة في علاقتنا بدين الإسلام في شروط القرن الحادي والعشرين. فهناك شيء لدينا جعل حدوث 11 أيلول 2001، و7 كانون الثاني (يناير) 2015 وإعلان دولة الخلافة في حزيران (يونيو) 2014 ممكناً. لا مفر أمامنا من مواجهة هذه الحقيقة، بصرف النظر عن وجود مؤامرات دولية ضد الإسلام والمسلمين أو عدم وجودها.
- حرية التعبير قيمة إيجابية يجب الدفاع عنها في كل الشروط. لكن إساءة استخدام هذا الحق لاستفزاز مشاعر جماعات بشرية دينية أو عرقية أو غيرها، هي جريمة يعاقب عليها القانون، أو يفترض أن يعاقب عليها. ولو أن القضاء قام بعمله، حين تم نشر الرسوم المسيئة، لربما كان يمكن تجنب «أخذ الثأر باليد» كما حدث، إذا صحت الرواية التي تتبناها اليوم وسائل الإعلام.
الأيام والأسابيع القليلة القادمة حبلى بالمزيد من الويلات في منطقتنا، وربما في سورية بالذات. |