يصعب تصور جماعات سياسية مسلحة لا تعتمد في مواردها وتمويلها على الدعم الخارجي، هذا ينطبق على حركات التحرر الوطني، والأحزاب المعارضة لسلطاتها، والميليشيات ذات التمثيلات الطائفية أو القومية.
وفي الواقع هذه الجماعات التي تغدو العسكرة شكلاً لها، والوسيلة الأساسية لصراعها ضد خصومها، وأعدائها، تفترض سلفاً وجود مسلحين محترفين، ومصادر إمداد وخطوط نقل وتسهيلات عبر الحدود وأجهزة خدمية، وهذه كلها تحتاج إلى دعم مالي كبير ومنتظم. وطبعاً، هذا كله يضاف إلى توثيق العلاقات مع دوائر استخبارات الدول المساندة، وتقديم خدمات سياسية لها، وصولاً إلى إقامة نوع من علاقات التماهي أو الارتهان بها، بدرجة نسبية أو مطلقة.
هكذا، فالعلاقة بين هذه الجماعات والدول الداعمة تثير إشكاليتي الاستقلالية، والمنفعة المتبادلة، بخاصة أن التجارب لم تثبت وجود علاقات سليمة أو نزيهة بين الطرفين، تتأسس على الدعم بسبب المبادئ، أو انتصاراً للقيم الأخلاقية، وضمنها قيم الحرية والعدالة. والقصد أنه لا يوجد دعم يخلو من أغراض التوظيف السياسي، بغض النظر عن مستوياته، إذ إن الدول لا تشتغل مجاناً أو كجمعيات خيرية. هذا ينطبق حتى على الثورة الفيتنامية، إذ إن الدعم الصيني والسوفياتي لها، في مواجهة الولايات المتحدة، لم يخرج من نطاق صراعات الحرب الباردة، وهو ما ينطبق على كوبا، وعلى الدعم الذي كانت تلقاه حركات التحرر في آسيا وأفريقيا، علماً أن الحديث هنا يتعلق بالدعم المادي والتسليحي.
في حالتنا العربية تؤكد التجربة الفلسطينية هذه الحقيقة، إذ إن الأنظمة التي أغدقت الدعم على منظمة التحرير، وفصائلها، منذ منتصف الستينات، لم تكن منزّهة عن فكرة إيجاد مركز ينازع عبدالناصر، ويخفف من تأثير زعامته في العالم العربي، بسحب القضية الفلسطينية من يديه. كما لم يخلُ هذا الدعم من أغراض تعزيز شرعية الأنظمة القائمة، ولاحقاً التغطية على هزيمة حزيران (يونيو) 1967.
بالإجمال، كان لهذا الدعم تأثيراته السلبية، أيضاً، في حركة التحرر الفلسطينية، بداية من اضطرارها لمجاملة مختلف أطراف النظام العربي، بل كيل المديح لها، إلى درجة أن منظمة التحرير غدت بمثابة نظام من هذه الأنظمة. وشمل ذلك توقف الفصائل عن طلب الدعم الشعبي، وتنمية مواردها الذاتية، لتعزيز استقلاليتها، والارتهان، بدل ذلك، للدعم المتدفق عليها من بعض الأنظمة، وصولاً إلى تحول المنظمة في فترة قصيرة من هدف تحرير فلسطين إلى هدف إقامة دولة في الضفة والقطاع (1974)، من دون أي تمهيد أو مبرر يذكر.
وللتذكير، فالأعراض المرضية للدعم المالي الخارجي لم تمسّ المنظمة والسلطة و «فتح» فحسب، وإنما مسّت كل الفصائل، وضمنها «اليسارية»، التي ظلت تتغذى، أو تعتمد على أموال المنظمة والسلطة، والتي دأبت على الدوام على المطالبة بحصّتها، سواء كانت هذه الأموال متأتية من دول «البترودولار»، أو متأتية من الدول الغربية الإمبريالية، كالولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي! وأخيراً شهدنا سعي «حماس» لإعادة الاعتبار لعلاقتها مع إيران، لأسباب مالية، على رغم دورها في شق المجتمعات العربية في المشرق العربي، بإثارتها النعرة الطائفية - المذهبية، وعلى رغم كل ما فعلته هي والميليشيات التي تدعمها في العراق وسورية ولبنان.
يستنتج من ذلك، أن أموال الدعم الخارجي فعلت فعلها في تخريب بنى حركات التحرر الوطني، أو حرفها عن أهدافها، أو إدخالها في مغامرات غير محسوبة، أو توظيفها لخدمة سياسات دول معينة، وهذا ما ثبت في التجربتين الفلسطينية واللبنانية، وأخيراً السورية.
مثلاً، لم تعد حركة التحرر الفلسطينية هي ذاتها، فقد تحولت إلى سلطة، واختزلت قضيتها إلى الأراضي المحتلة عام 1967، فوق ذلك فهذه الحركة، بواقع عدم اعتمادها في مواردها على شعبها، وغياب علاقات الديموقراطية والتمثيل والتداول داخلها، باتت تتصرف وفق أهواء الطبقة السياسية المتحكمة بها. في حين أن سياسة «حماس» في غزة عرّضت الفلسطينيين لأهوال ثلاث حروب ولحصار وحشي منذ ثمانية أعوام، ناهيك عن الانقسام الحاصل في الكيان السياسي الفلسطيني، وهي سياسات لا يمكن فصلها عن أهواء السياسة الإيرانية.
هذا ينطبق على «حزب الله» في لبنان الذي أنهى وظيفته في مقاومة إسرائيل، إثر انسحابها من الجنوب (2000)، وتحول إلى ميليشيا تستخدم السلاح لفرض توازنات طائفية جديدة في لبنان. والأنكى أن هذا الحزب تحول إلى مجرد ذراع لإيران في قتاله السوريين دفاعاً عن نظام الأسد، مثل الميليشيات «الشيعية» العراقية الموالية لإيران. أما على الصعيد السوري فنشهد تشرذم جماعات المعارضة المسلحة السورية، وخضوعها لإملاءات الداعمين، الأيديولوجية والسياسية، الأمر الذي أضرّ بالسوريين، وبصورة ثورتهم، وبسلامة مسارها.
الفكرة أن المزيد من الدعم يعني المزيد من التبعية والارتهان، لا سيما بالنسبة إلى الجماعات التي لا موارد خاصة لها، ولا تعتمد في تمويلها على شعبها، وتفتقد إلى الانتظام، والطابع المؤسساتي، والعلاقات الديموقراطية. فهذا الدعم يشتغل سلباً بتعزيز الاتكال على الخارج، وإفساد الحياة السياسية، وجعل القضايا مجرد ورقة للتوظيف والاستخدام، ناهيك عن شق الصفوف، وتشكيل سلم قيم مختلف مع سلوكيات غريبة عن الروح النضالية. فوق كل ذلك فالدعم الزائد عن الحد يشجع على خلق توهمات، والدخول في مغامرات عسكرية غير مدروسة، لا علاقة لها بقدرة الشعب على التحمل، أو على استثمار تضحياته ونضالاته، وهذه ملاحظة من واقع تجارب لبنان وفلسطين وسورية، لأن الأولوية تغدو إثبات الذات وخدمة سياسات الداعمين بدلاً من خدمة مصالح الشعب والقضية.
قصارى القول: آن الأوان لمصارحة مع النفس، والمراجعة النقدية، والشجاعة المسؤولة، في التعامل مع مسألة الدعم المالي الخارجي، بما يفضي إلى تعزيز اعتماد الحركات السياسية، التي تتوخى قيم الحرية والكرامة والعدالة، على الموارد المتأتية من شعبها، وتكييف أشكال عملها ونضالها مع قدرات مجتمعاتها وإمكاناتها، فهذا ما يجعل كفاحها أسلم وأعمق وأقوى أثراً على بنائها كشعب، وعلى حركتها السياسية، وجدوى كفاحها. |