أُعلن في تونس رسمياً ترشيح شخصيّة مستقلّة لرئاسة أوّل حكومة في عهد الجمهورية الثانية، ولئن خضع هذا الاختيار لاعتبارات عدة، فأحد الاعتبارات هو الموقف من مستقبل حركة «النهضة» في الساحة السياسية.
وليس خافياً أنّ الحزب الفائز في انتخابات 2014، التشريعية والرئاسية، تمزّقه اختلافات عميقة في شأن هذا الموضوع، لكن الأهمّ إدراك أنّ هذا الموضوع محلّ اختلاف لدى كلّ التيارات السياسية والفكريّة التونسية، بل لدى عامة المواطنين أيضاً. ويمكن أن نميّز خمسة مواقف رئيسة نجدها موزعة بين الجميع بنسب متفاوتة، وقد تنسحب على كلّ المجتمعات العربية وهي تواجه ما اصطلح على دعوته بالإسلام السياسي.
فأوّل المواقف يمكن أن نطلق عليه موقف «التبسيط»، ولعله الأكثر التصاقاً بالوضع التونسي، ذلك أنّ جيلاً كاملاً من التونسيين لا يعرف شيئاً عن تاريخ «حركة النهضة» وتاريخ رموزها وقياديّيها الكبار. فمنذ 1991، أصبح الحديث عن هذه الحركة ممنوعاً في تونس، حتى لو كان من قبيل الدراسة والنقد بل الرفض والمعارضة. ومن المفارقات أنّ هذه السياسة التي فرضها النظام السابق كانت أفضل هدية لحركة «النهضة» في الانتخابات الأولى بعد الثورة، عام 2011، إذ صوّت لها الكثيرون لأنّهم رأوها ضحية النظام السابق، وتوسّموا فيها أن تكون أفضل من يحول دون عودته. ولم تكن المدّة الفاصلة بين نجاح الثورة وتنظيم أوّل انتخابات بعدها كافية لتطرح الأسئلة حول ماضي الحركة وارتباطاتها الدولية ومرجعيّاتها الإيديولوجية. ولئن طرحت هذه القضايا بقوّة بعد وصول الحركة إلى الحكم، فإن قطاعاً من التونسيين يظل إلى حدّ الآن يرى أنّ «النهضة» مجرّد حزب سياسي لا علاقة له بالإسلام السياسي و «الإخوان المسلمين»، وأنّ هويته الدينية ليست إلاّ نتيجة لتعلّق المجتمع عامة بالقيم الإسلامية التي لا تفصل من الأصل بين الدين والسياسة.
ولقد سعت «النهضة» منذ الثورة إلى تجنّب كل هذه النقاشات ولم تحتفظ من تاريخها إلاّ بالجانب «النضالي» والمظالم التي تعرّضت لها. كما أن عشرات المنسلخين عنها، ومنهم قيادات في الصفّ الأوّل، يلتزمون الصمت والتعتيم حتى الآن، وقد اختفت على صفحات التواصل الاجتماعي بعض النصوص النقدية التي نشروها قبل الثورة.
في مقابل هذا الموقف، نجد الرؤية «الاستئصالية» التي لا تميّز بين «النهضة» في السبعينات («الجماعة الإسلامية» ثمّ «الاتجاه الإسلامي») وما هي عليه اليوم، وما كان يكتبه الغنوشي في مجلة «المعرفة» وما يصرّح به اليوم، فهي تصرّ على أنّ «النهضة» تتظاهر بالاعتدال عند الضعف، وتبرز وجهها الحقيقيّ عند الشعور بالتمكّن، وأنّها لذلك غير قابلة أن تكون حزباً سياسيّاً، ولن تستطيع أن تتطوّر في هذا الاتجاه.
أمّا الموقف الثالث فموقف «العزل»، وهو أقلّ تصلباً من الموقف السابق، ويقرّ بأنّ «النهضة» وجدت لتبقى، وأنّها تمثل القوّة السياسيّة الثانية، وهذا أمر واقع لا بدّ من قبوله، لكنّه يشكّك بقدرتها على التحوّل إلى حزب سياسي بالمعنى العادي للكلمة، ويرى أنّها متعوّدة على ازدواجيّة الخطاب ولا يمكن الثقة بها. ويقترح أصحاب هذا الموقف مواجهتها بطريقة العزل، مثلما صنعت فرنسا مع الجبهة الوطنية، فلم تمنعها من التشكل كحزب سياسي لكنها تركتها خارج اللعبة السياسية، فالطبقة السياسية تجمع على التحالف ضدّها عند الضرورة، وتنأى بنفسها عن التحالف معها في كلّ الحالات.
والموقف الرابع هو موقف «الاحتواء»، وهو يرى أنّ تشجيع «النهضة» على الانخراط العادي في العمل السياسي، في ظل عهد قائم على الديموقراطية، يمثل أفضل وسيلة لقطعها عن مرجعيتها الإخوانية الأصلية، وتهميش الشقّ الإخواني في صلبها، وإبعاد قواعدها عن مقولات الحاكمية والجهاد والتمكين. ويستشهد أصحاب هذا الموقف بأن احتواء الإسلام السياسي التونسي، منذ الثمانينات، داخل دوائر ثلاث هي الحركة الطالبية والحركة النقابية والحركة الحقوقية، أثّر تأثيراً بالغاً في هذا التيار وأبعده عن تصوراته التي نشأ عليها، ولولا تلك الخلفية التاريخية الطويلة لما نجح حالياً المسار الانتقالي في تونس.
أخيراً، يتمثل الموقف الخامس في «التطبيع» مع الحركة، واعتبارها تياراً سياسياً كأي تيار آخر، وهو يختلف عن الموقف الأوّل بأنّه يعي تماماً أنها حركة نشأت في الأصل بمرجعيّة «إخوانيّة»، وارتبطت بالتنظيم الدولي لـ «الإخوان»، لكنه يعتبر ذلك تاريخاً منقضياً، ويرى أن الحركة قد طلقته منذ فترة بعيدة، وأن اليسار هو الذي دفع بن علي الى التصادم معها، وكان ذلك خطأ جسيماً دفع الرئيس المخلوع ثمنه ولو بعد حين، وأضرّ بمصالح البلاد. ومن المفارقة أن هذا الموقف يجد صدى واضحاً لدى جزء من المنتسبين الى الحزب الحاكم سابقاً.
هذه المواقف الخمسة، تتجاذب التونسيين جميعاً، وإليها أيضاً تتوزّع الآراء داخل حزب «نداء تونس» المتمتع بالغالبية النيابية النسبية. أمّا زعيم الحزب، الباجي قائد السبسي، فمن أنصار نظريّة الاحتواء، وهو لم ينتظر أن يتفق حزبه على موقف واحد، فهذا الأمر شبه مستحيل، مقرّراً تعيين السيد حبيب الصيد لرئاسة الوزراء، لأنّه مقبول من حركة «النهضة»، ورافضاً تعيين الأمين العام لحزبه الذي تعتبره الحركة من أنصار الموقف الاستئصالي.
ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ هذا العامل ليس الوحيد الذي وجّه اختيار السبسي. فثمّة عوامل أخرى أهم، كحرصه على أن يكون صاحب القرار، ولذلك اختار شخصيّة تنفيذيّة لا تنافسه سلطة القرار، وتقديره أن القضايا الأمنية يجب أن تكون مقدّمة على غيرها في المرحلة المقبلة، مختاراً وزير داخليته في حكومة 2011، وهذا إضافة إلى طريقة عمله التي تعتمد على الثقة الشخصيّة بالمعاونين، ولو كانوا من غير المنتمين إلى حزبه. لكن ما يهمنا، من زاوية طرحنا للموضوع، أن الباجي قائد السبسي قد وجّه تونس في طريق اختبار الموقف الرابع (الاحتواء)، ودفعها لتخوض في السنوات المقبلة تجربة لا تقلّ عسراً عن تجربة الانتقال الديموقراطي، وسنرى هل تنجح المراهنة.
المؤكد أنّ تونس ستكون مختبراً لأطروحة الاحتواء الديموقراطي للإسلام السياسي، وهي غير التطبيع أو التعامل البسيط الساذج معه، بحيث تجدر متابعة تطورات الموضوع بكلّ دقّة من جانب كلّ المتخصّصين في دراسة هذا التيّار والمهتمين بتطوراته ومصائره. |