يكشف التفاعل الأردني الرسمي والشعبي مع قصة الطيار معاذ الكساسبة الذي وقع في الأسر لدى داعش عن دلالات وتحولات عميقة في بنية المجتمع وأسلوب التفكير والقيم الجديدة. ففي الجانب المؤيد للحكومة والمتضامن مع الكساسبة لم يعد لدى الأردنيين قدرة على احتمال كلفة الحروب: نريد مشاركة ودوراً لا يؤدي إلى خسائر بشرية!
المسألة الإيجابية في هذا الموقف إذا كان التشخيص صحيحاً، هو نشوء اتجاه اجتماعي قوي ومؤثر نحو تجنب الصراع والتطلع نحو السلام، ما ينشئ موجة ضد العنف والكراهية في كل المستويات وفي كل مكان! والميل إلى التسويات السلمية في الصراعات والعلاقات الاجتماعية والسياسية.
لكن الجانب المخيف في هذا الاتجاه غياب الرؤية والتماسك الاجتماعي الواضح خلف رؤى ومواقف وطنية، لا أحد يعرف ومن يعــرف لا يجيب عن أسئلة بديهية عن السياسة الخارجية الأردنية والمواقف والمصالح والمـخاوف المتعلقة بدول الجوار، ليس ثمة في هذا الفسطاط سوى حشد التضامن والتأييد والدعاء والتضرع لأجل الكساسبة!
فسطاط المعارضة يطرح أفكاراً وإن كانت ليست هي المنشئة للموقف المعارض ابتداء فإنها مستمدة من قيم وأفكار الحكومة وقواعدها الاجتماعية، هي ابتداء معارضة جذرية ومنفصلة عن سياق الدولة والاتجاه المفترض الغالب للمجتمعات والأفراد، وأنشأتها قيم وأفكار ليست هي التي تقدم في المناسبات والأحداث ولكنها تؤخذ كدليل لتأييد الموقف والفكر الانفصالي والمناقض جذرياً للدولة ومشروعها ومواقفها الإيجابية منها والسلبية. هي لن تؤيد الدولة حتى لو أعلنت الحرب على إسرائيل، وطبقت الشريعة الإسلامية (طبعاً الدولة الأردنية تطبق الشريعة أكثر مما يريد الله، وهي أقرب إلى الدولة الدينية القروسطية) أولم تكن ابتداء في حالة مشاركة وتأييد مع التحالف الدولي، وتتخذ موقفاً دائماً لا يتزحزح ولا يتغير في جميع الأحوال والمواقف، ولكنها تقدم تفسيرات وقيماً لتبرير موقفها المعارض من قبيل ليست حربنا، والتحذير من التبعية والقلق على الاستقلال السياسي والاقتصادي.
وبالطبع فإنه تحول إيجابي ويقدم فكراً وقيماً جديدة على هذا التيار وقواعده الاجتماعية وإن كان تقية وليس حقيقياً ولا مستمداً من مواقف وبرامج اجتماعية وطنية واضحة يدافع عنها ويدعو إليها.
وهذه ملاحظة لا تعني فقط الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المعارضة كما يفهم تلقائياً، ولكنها تشمل تياراً سياسياً واجتماعياً ممتداً وعميقاً ومؤثراً؛ قوميين ويساريين وأفراداً وكتلاً كثيرة غير واضحة أو محددة في تصنيف سياسي أو فكري ولكنها يجمع بينها على اختلاف انتماءاتها التناقض الجذري والانفصال الاجتماعي والسياسي وعدم الاستعداد للمشاركة في موقف إلا في الرفض الكاسح والشامل.
هو فسطاط يضع لنفسه عنوان «الإسلام» و»التحرير» أو الانسحاب، ويجعل كل من يختلف معه مناقضاً للإسلام أو خائناً أو موالياً لإسرائيل، ولا يحتمل ولا يقبل بفكرة ثالثة، مع الإسلام أو ضده، مع التحرير أو مع إسرائيل.
تغطية الرفض والانفصال الجذري بأفكار وتفسيرات عملية واقعية يبدو تحولاً إيجابياً، ويؤشر على الاستعداد على المساومة على الجذرية والانفصال وإمكانية النظر بواقعية إلى السلبيات والإيجابيات في المواقف والسياسات، وبالطبع فإنه ليس تحولاً كبيراً أو عظيماً ولكنه مبتدأ التحول والتغير النفسي على الأقل!
وبالطبع فإن قصة الكساسبة لم تكن الحالة الوحيدة التي أشرت على هذا المشهد والانقسام الاجتماعي والقيم المتعارضة، والتي نهمس بها على نطاق واسع في مجالسنا، ثم نتظاهر في وسائل الإعلام والمناسبات والمواقف المعلنة والرسمية على تجاهلها وعدم الاعتراف بها، ولا يقتصر الهمس على أي حال في الانقسام الاجتماعي حول السياسات الخارجية والعامة التي تديرها الحكومة.
السياسة الحكومية بالطبع مليئة بالعيوب والأخطاء والتقصير، ولكن الاتجاه في نقدها ومعارضتها انطلاقاً من أفكار وقيم إصلاحية كما في دول ومجتمعات العالم يبدو معزولاً وغير قادر على العمل أو حتى التموضع، فليس ثمة إلا فسطاطان؛ الولاء والانتماء بدءاً من الدفاع عن الوطن إلى الامتيازات التي تديرها النخبة، أو «الإسلام» و «التحرير» والمعارضة الصفرية الرافضة والشاملة والكاسحة. وفي ذلك تتعطل الآليات والديناميات المحركة للجدل والتأثير، وأسوأ من ذلك تتكرس قيم الكراهية والغموض وعدم الثقة.
هناك بالطــــبع تيار ثالث يؤمن بعمل مستمد مــــن قيم وأفكار عملية للتأييد والمعارضة، ويتطـــلع إلى حياة سياسية وعامة قائمة على جدل عملي وحقيقي بين الأفكار والبرامج والاتجاهات، وتشكل المجتمعات والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية والشبابية في هذه الاتجاهات والجدالات، وتؤثر في الانتخابات النيابية والعامة والسياسات الحكومية وفق هذا الجدل، ولكنه تيار ما زال لا يعرف نفسه، ويهيمن على أصحابه شعور بالعزلة والاستبعاد، ولا يخلو أيضاً من المبادرين الفاشلين والانتهازيين والمغامرين.
* كاتب أردني. |