الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٤
المصدر: ملحق النهار الثقافي
الطائف عرّب لبنان ومهّد لـ"دستور" الجهاد الحربي - محمد أبي سمرا
لم تكن مشكلة الحكم في لبنان يوماً في النصوص، ماضياً وحاضراً، بل في الممارسة وفي إدراك الغاية من الوصول الى السلطة. ولم تكن المشكلة يوماً في النظام السياسي، لأنه لا نظام سواه يصلح للبنان، إذا استمرت مبررات الوجود إياها في قبول المكوّنات البشرية المختلفة بقاعدة العيش الواحد.

في لبنان دستور قديم متجدد، لا عيب فيه إذا قورن بالعيوب التي تظهر في الدساتير عادةً بعد البدء بالتنفيذ، وذلك في أعرق الديموقراطيات. فالمشكلة هي إما في سعي البعض الى تغيير المعادلة التقليدية القائمة على التوازن، بصرف النظر عن الأعداد والمرجعيات، وإما في محاولات البعض الآخر طرح موضوع ترميم النظام، في الوقت الذي تحتاج أوضاعهم هم الى ترميم.

يحصل ذلك في أوقاتٍ تتهاوى فيها أنظمة دول مجاورة، لا بل كياناتها التاريخية، حين عادت تطفو على السطح تناقضات ترجع الى زمن التكوين، طمستها أنظمة الحكم الإستبدادية طويلاً. فقد تبين أن ما يجري في العراق وسوريا، بصرف النظر عن مسبباته المباشرة ودور أنظمة الحكم فيها، هو قضية صعوبة في العيش الواحد، تعبّر عنها المكوّنات البشرية بالعنف والدم والنار.

لكن ذلك ليس حكراً على بلدان الشرق العربي، ففي قلب أوروبا بلدان تظهر فيها رغبات انفصالية مثلما هي الحال في بلجيكا بين الفلامنكيين والفالونيين، أو رغبة الاسكوتلنديين في الإنفصال عن المملكة المتحدة، أو الكاتالونيين والباسك في إسبانيا، فضلاً عن انفجارات القوميات في يوغوسلافيا السابقة والإتحاد السوفياتي السابق.

هذا ما جرى ويجري حولنا وفي العالم. لكن مشكلتنا في لبنان ليست من هذا القبيل. فالعنصر الإيجابي الأبرز الذي يسجَّل عندنا هو عدم وجود رغبة لدى أحد بالإنفصال عن الآخر. هذا أمر أساسي، يُبنى عليه.

فهل في لبنان خلاف حول نظام الحكم، حول اتفاق الطائف، والى أين يتجه المطالبون بالتعديلات، أو الذين ألمحوا ويلمّحون الى مؤتمر تأسيسي ما؟
لقد تأسس لبنان بالطبع، وما الدعوة الى إعادة التأسيس سوى وهمٍ يُطرَح في باب المزايدة السياسية.

النظام اللبناني مزيج من دستور ووفاق. نشأت فيه أعراف الى جانب النصوص، كما في معظم أنظمة الحكم، وهي لا تقل أهمية عنها. البرهان هو الميثاق الوطني لعام 1943 الذي انعكس على الممارسة الدستورية وجعل رئيس الحكومة يوقّع جميع مقررات رئيس الجمهورية، على الرغم من أن الدستور لم يكن يقول بذلك، قبل تعديل العام 1991.

كانت العلة في الممارسة. لأن النظام اللبناني هو نظام برلماني ملبنن. فيه نصوص وأعراف وطائفية ومناطقية ووراثة عائلية، ومصالح خاصة. أخذنا من الآخرين بعض الأحكام الأساسية للديموقراطية، وحوّلناها على قياسنا اللبناني. لأن دستور 1926 الذي تأثر بالدساتير الفرنسية والبلجيكية والمصرية التي سبقته، ظل مقبولاً وساري المفعول، الى أن ظهرت الثغر.

ذلك أن الصلاحيات الكبرى التي لحظها الدستور لرئيس الجمهورية لم يكن مفروضاً بها أن تمارس، وفق منطق النصوص، إلا في حالات إستثنائية. فإذا كانت المادة 53 السابقة قالت إن رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويقيلهم ويختار من بينهم رئيساً، فهذا لا يعني أن على رئيس الجمهورية أن يفعل ذلك بمعزل عن مقتضيات الوفاق والشورى.

فالصلاحيات الرئاسية السابقة كانت مهمة، وليس ذلك فقط في مجال تأليف الحكومة. لأن السلطة الإجرائية كانت منوطة برئيس الجمهورية.

لكن "الإصرار على استعمالها غالباً يؤدي الى إضعاف المؤسسة الرئاسية نفسها"، كما قال فؤاد بطرس في محاضرة له مطلع الستينات.

لا شك أن استياء أخذ يظهر على مدى السنوات الإستقلالية جراء مفهوم أو أسلوب معيّن لدى بعض رؤساء الجمهورية في ممارسة صلاحياتهم، وخصوصاً في الفترة المباشرة السابقة لإتفاق الطائف، وهذا من الأسباب التي حملت المشرّعين في الطائف على الحدّ من الصلاحيات الرئاسية.

فرئيس الجمهورية اللبنانية، بالصلاحيات الكبيرة التي أعطيت له في دستور 1926 وتعديلاته، وبكونه يجسّد سلطة الحكم، وبخلاف سائر الحكّام العرب، يفترض فيه خصوصاً، وبما أنه ينتمي الى طائفة معينة، ويرأس جمهورية متعدّدة الطوائف، أن يكون هدفه دائماً مصلحة الجميع، وأن تكون الحكمة والدراية وحسن التبصّر والوفاء لأمانة الحكم قواعد عمله، أكثر ممّا يعطيه الدستور من صلاحيات. لأن المواد تلك، المستوحاة من دساتير أجنبية، لا يمكنها أن تصلح في لبنان إلا من ضمن مفهوم الحرص على العيش المشترك ومراعاة التوازن والمساواة. فالمسألة لم تكن لا في طائفته ولا في صلاحياته.

فرئيس جمهورية لبنان هو المرجع والحكـَم قبل أن يكون الشخص الذي "يعيّن الوزراء ويُقيلهم ويختار من بينهم رئيساً"، والذي تناط به السلطة الإجرائية ويقترح القوانين ويطلب حلّ مجلس النواب وسواها من الصلاحيات الأساسية.

هكذا في ما يعود الى الصلاحيات، أو الى إعادة توزيعها، كما اصطلح على التسمية وقت وضع إتفاق الطائف، فإن التعديل الأساسي الذي حصل هو في نقل قسم كبير من صلاحيات رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء من جهة، وتحديد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء وهو رئيس الحكومة، في تمييز دستوري بين صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء، فضلاً عن صلاحيات رئيس الجمهورية. ففي الدستور القديم، لم يكن هنالك ذكر لرئيس الحكومة أو لصلاحياته بشكل منفرد. وكذلك الأمر بالنسبة الى مركز رئاسة مجلس النواب الذي انعكست صلاحياته أيضاً على الحياة الدستورية وممارسة السلطة الإجرائية، اقلّه من خلال تعديل المادة 58 من الدستور.

أما مطالبة البعض بتعديلات تعيد إلى رئيس الجمهورية صلاحية بت الأزمات الناشئة عن تأليف الحكومة، كمرجعية يعود إليها حق الفصل، أو إعادة حق طلب حلّ مجلس النواب، فيجب النظر إليها من ضمن واقع الصلاحيات ككل، والمبررات التي أدت الى التعديلات. علماً بأن حقّ حلّ مجلس النواب، إذا كان من ضمن مقياس التوازن في النظام البرلماني، لم يمارَس في لبنان إلا ثلاث مرات: مرةً في عهد الرئيس بشارة الخوري، ومرتين في عهد الرئيس فؤاد شهاب. لذا فليس ذلك هو المطلوب.

على أن إتفاق الطائف ليس محصوراً في إعادة توزيع الصلاحيات. لكن ما طُبّق منه هو هذه الصلاحيات بالذات، على حساب بنود أخرى طاولت مختلف نواحي إنهاء مظاهر الحروب من جهة، وإيجاد الحلول لمختلف القضايا على الصعد الأخرى. من اللامركزية الإدارية الموسعة، الى إصلاح القضاء، وإنشاء المجلس الإقتصادي الإجتماعي، ومجلس الشيوخ، وحل جميع الميليشيات اللبنانية خلال ستة أشهر، فإلى إنسحاب القوات السورية، ولو ضمن شروط ذكرها الإتفاق.

جرى تطبيق إتفاق الطائف على يد نظام الوصاية. ولم يكن مسموحاً في أي شكل من الأشكال بأن يثار موضوع إنسحاب القوات السورية من لبنان، وبخاصة مع المفهوم المتشدد لبشار الأسد في هذا الموضوع، وتزايد إحكام القبضة، الى أن بدأت الفواجع، وانتهى الأمر بالإنسحاب الإكراهي للقوات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005 تحت الضغط الشعبي الداخلي أولا، ثم المواقف الإقليمية والدولية.

لكن الذين يطالبون بتعديل إتفاق الطائف، أو بإلغاء الطائفية السياسية، أو بعقد إجتماعي جديد، وهي العناصر التي جعلت البعض يدعون الى مؤتمر تأسيسي لبحث مختلف هذه الأمور، ماذا يريدون في النتيجة، إذا ردّوا الأمور الى أصلها؟

لا الدستور منزل ولا إتفاق الطائف منزّه من الثغر. ولكن ما هي البدائل التي لم يجرؤ أحد بعد على طرحها، باستثناء تعديلات معيّنة ذكرها الرئيس ميشال سليمان عند إنتهاء ولايته. وهذا أمر آخر مختلف تماما عن الدعوة الى مؤتمر تأسيسي.

فلقد أورثتنا أثقال الوصاية خراباً في المؤسسات الدستورية، حين أخضع الدستور للقرار السياسي. ووجدنا أنفسنا بعد ذلك في رفض إنضواء الجميع تحت سقف الدولة، وجرّ لبنان الى مغامرات السلاح في الداخل وفي الخارج. وإن من يفعل ذلك لا يطالب بتعديلات في النظام أو الدستور. فالبندقية لا توضع على طاولة صوغ النصوص، لعداء عمره من عمر الزمن بين قوة الفكر وقوة السلاح.

على أنه، في أي حال من الأحوال، ليس نظام الحكم ولا الدستور هما المستهدفين بالضرورة في المطالبات ما دام ليس ثمة مكان في لبنان لنظام بديل. هدف المطالبين هو محاولة الإفادة من تغيّر الظروف في موازين القوى لإحداث تغيرات تخدم مصالحهم. وإلا كيف جمِّد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكون الدستور، وهو القانون الأسمى، ليس فقط مرجعية الإستحقاقات، بل مرجعية المتخاصمين. فالدساتير وُجدت لهذا الغرض، وليس للعبث بها ووضعها تحت الخلاف السياسي، والنصاب وُجد لكي يؤمّن حسن الإنتخاب لا ليعطّله. فإذا كانت تلك هي الممارسات، فهل نضع دستوراً على قياس الممارسات، بدل أن يكون رادعاً لها؟!

تلك هي القضية اليوم في لبنان. الصراع السياسي هو مزيج من ربط لبنان بمحور خارجي له وسائله المعروفة، وحسابات داخلية تلتقي معه. لذا من الأفضل أن تترك النصوص بسلام، والبحث عن حل المشكلات في مجالات أخرى.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة