التطرف الأيديولوجي – مثله في ذلك مثل العولمة – ظاهرة تملأ
الدنيا وتشغل الناس! ومشكلته أنه لا يتعلق فقط باتجاهات فكرية منحرفة أو رؤى للعالم متخلفة وبدائية فقط،
ولكنه يتحول في مجال الممارسة على مستوى الأفراد والجماعات وبعض الدول إلى إرهاب صريح. وهذا الإرهاب لا
يوجه ضرباته فقط للخصوم الفكريين أو السياسيين، ولكنه يصوب سهامه المسمومة إلى المدنيين بصورة عشوائية،
مما يؤدي إلى سقوط مئات القتلى والجرحى.
ومن ثم يمكن القول أنه لكي نفهم
الإرهاب وطبيعته وأسبابه، لا بد لنا في البداية أن نحلل وندرس بعمق ظاهرة التطرف الأيديولوجي، من حيث
تعريفه ومصادره ونتائجه وطرق مواجهته.
1
وقد يكون من
المناسب أن نبدأ بتعريف الظاهرة!
التطرف ظاهرة معقدة، على رغم أنه من الصعب
تلمس تعقيدها. والتطرف – ببساطة – هو أنشطة (معتقدات، واتجاهات، ومشاعر، وأفعال، واستراتيجيات) يتبناها
شخص أو جماعة بطريقة تبعدها عن الأوضاع العادية السائدة بين الناس. وهي في مواقف الصراع تعلن عن نفسها
باعتبارها شكلاً عنيفاً من أشكال الانغماس في الصراع. ومع ذلك يمكن القول إن إطلاق صفة التطرف على
الأنشطة والناس والجماعات، وكذلك تعريف ما هي الأوضاع العادية في أي موقف، هي مسألة ذاتية من ناحية،
وسياسية من ناحية أخرى.
وعلى هذا الأساس يرى بعض الباحثين الثقات أنه لا بد من
وضع الاعتبارات التالية في أي مناقشة للتطرف.
نفس الفعل المتطرف الذي يراه
البعض عادلاً وأخلاقياً مثل «الحرب في سبيل الحرية» قد ترى أطراف أخرى أنه غير أخلاقي بل فعل إرهابي
مضاد للمجتمع. وذلك كما كانت قوات التحالف الغربي في العراق بقيادة الولايات المتحدة تنعت أفعال
المقاومة ضد الاحتلال الأميركي. ويتم ذلك وفقاً لقيم وسياسات وأخلاقيات كل طرف، وطبيعة علاقاته
بالفاعل.
وبالإضافة إلى ذلك فإن إحساس المرء بأخلاقية أو لا أخلاقية الفعل
المتطرف (مثل حرب العصابات التي قادها نلسون مانديلا ضد الاستعمار الاستيطاني للبيض في جنوب أفريقيا) قد
يتغير بتغير الظروف (مثل نوعية القيادة، والرأي العام العالمي، والأزمات والسياقات التاريخية). وعلى ذلك
يمكن القول إن السياق المعاصر والتاريخي للأفعال المتطرفة يشكل نظرتنا
إليها.
والاختلافات في القوة مهمة ونحن بصدد تعريف التطرف، وذلك في المواقف
التي تستخدم فيها القوة جماعات نصيبها من القوة ضئيل، في مواجهة أنشطة مشابهة يقوم بها أفراد أو جماعات
تدافع عن بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. وبالإضافة إلى ذلك يمكن القول إن فئات الشعب المهمشة يمكن
أن تميل إلى استخدام الأفعال المتطرفة، إذا رأت أن وسائل الصراع السلمية لنيل حقوقها مسدودة
أمامها.
ومع ذلك يمكن القول إن الجماعات والطبقات السائدة التي قد تساندها
الدولة، عادة ما تلجأ إلى أفعال متطرفة لقمع خصومها السياسيين.
وعادة ما تتمثل
الأفعال المتطرفة في وسائل عنيفة، على رغم أن الجماعات المتطرفة قد تختلف في تفضيلها لتكتيكات عنيفة أو
غير عنيفة، وكذلك بالنسبة إلى الأهداف التي ستتوجه لمهاجمتها (مثل البنية التحتية، أو العسكريين، أو
المدنيين، أو الأطفال).
وفي نفس الوقت فإن الجماعات التي لا تمتلك فائضاً من
القوة، من الأرجح أن تلجأ لأشكال مباشرة للعنف (مثل التفجير الانتحاري)، في حين أن الجماعات المسيطرة
عادة ما تلجأ إلى أشكال العنف المؤسسية (مثل استخدام التعذيب، أو التسامح مع المعاملة الوحشية للأمن مع
الخصوم السياسيين).
وعلى رغم أنه يُظن أن بعض الجماعات المتطرفة متماسكة ولا
تحدث خلافات بين أعضائها، فالواقع يقرر أن هذه الجماعات غالباً ما تسودها الخلافات، سواء حول أهدافها أو
وسائلها لتحقيق هذه الأهداف، أو حتى بالنسبة إلى رؤيتها للعالم.
وأخيراً يمكن
القول إن المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى التطرف وخصوصاً في مواقف الصراع الممتدة، لا تتمثل في عنف
الأنشطة التي تقوم بها الجماعات المتطرفة ولكن في جمود وثبات الاتجاهات المتطرفة وعدم تسامحها مع الغير،
وبالتالي عدم قابليتها للتغير.
2
ولعل ذلك يدفعنا
إلى أن نثير سؤالاً رئيسياً: ما هي منابع التطرف؟
هناك ستة مصادر للتطرف، ولعل
أولها هو الحرمان النسبي، بمعنى سيادة الفقر والافتقار إلى الخدمات الصحية والغذاء السليم والتعليم
والعمل، وكلها تتضافر لكي تشكل مبررات للعنف. فإذا أضفنا إلى ذلك إنكار الحاجات الإنسانية الأساسية،
كالحاجة إلى الأمن والكرامة والاعتراف بهوية الجماعات المختلفة، وتعويق المشاركة السياسية، والخبرات غير
المحدودة التي تتعلق بإهانة الناس، والفجوة التي تزيد اتساعاً مع الوقت بين ما يعتقد الناس أنهم
يستحقونه وما يمكن لهم الحصول عليه، كل هذه العوامل أو بعضها يمكن أن تمثل خميرة للتطرف، خصوصاً حين تسد
المسالك المشروعة للتعبير عن احتياجات الناس.
والنقطة الثانية أن العنف يبنى
بالتدريج من قبل قادة سياسيين يعتمدون على ظروف الناس الصعبة من خلال الترغيب (إعطاء منح مالية لمساعدة
المتطرفين أو أسرهم) أو الوعود التي تعطى للمتطرفين بأنهم – حتى لو ماتوا أثناء الأعمال الإرهابية –
فإنهم سيكونون «شهداء ولهم الجنة».
وهؤلاء القادة يبررون التطرف باعتباره
وسيلة فعالة للسيطرة على السلطة. ومن ناحية أخرى فإن الجماعات والطبقات الاجتماعية المسيطرة غالباً ما
تغذي التطرف من خلال أساليبها القمعية في التعامل مع الجماعات المتطرفة. والتطرف في منظور ثالث يمثل
مخرجاً انفعالياً لمشاعر قاسية، تتعلق بالقهر، وعدم الأمان، وامتهان الكرامة، والضياع. والأفراد الذين
يشعرون بهذه المشاعر غالباً ما يجنحون إلى التطرف والإرهاب.
ومن ناحية أخرى
فالتطرف قد ينبع من تبني إيديولوجيات أخروية (تتعلق بنهاية العالم كما تحدده مجموعة متكاملة من الأساطير
والأفكار الخرافية)، وقد يتأثر الشباب بهذه الأساطير، من خلال المدارس أو برامج الميديا المختلفة أو
الزملاء أو الأسر ذاتها.
وهناك نظريات ترى في التطرف ظاهرة مرضية تدفع لطريقة
في الحياة تحبذ العنف لكي تعطي الشخص أو الجماعة إحساساً بالحياة، ويتم ذلك أحياناً من خلال تدمير
الحياة نفسها، كما يحدث في التفجيرات
الانتحارية.
3
غير أن ما يلفت النظر حقاً أن هناك
نظريات حديثة ترى في التطرف من ناحية والإرهاب من ناحية أخرى استراتيجية عقلانية في صراع القوة بين
أنصار السلطة ومعارضيها من الجماعات المتطرفة، ومن أبرزها الآن الجماعات الدينية
الجهادية.
وهذه النظريات الحديثة تذهب إلى أن التطرف ليس بالضرورة خارجاً عن
المألوف أو مضاداً للعقلانية، بل يمكن تفسيره بأنه – في حالات متعددة - يعد نموذجاً للتفكير
العقلاني!
وهذا الاتجاه المنهجي الجديد في التفسير يقوم على أساس قاعدة بسيطة
مؤداها أن العقلانية تقوم عادة على تقدير العلاقة بين الغايات والوسائل. ومن ثم قد يرى قادة الجماعات
المتطرفة - أياً كانت طبيعتها، سياسية أو ثورية أو جهادية إسلامية - أن تحقيق الأهداف التي يسعون إلى
بلوغها لا يمكن أن يتم من دون اللجوء إلى العنف الذي قد تتعدد صوره، من التظاهرات الاحتجاجية العنيفة أو
الاعتصامات إلى ممارسة الإرهاب الصريح.
ومن ثم لا يجوز ببساطة أن ننعت الحركات
المتطرفة - بحكم لجوئها إلى العنف أو الإرهاب - بأنها غير عقلانية.
بل إن أحد
الباحثين البارزين يقول في صياغة - تبدو غربية حقاً - أن التطرف مهما زادت حدته قد يكون من قبيل
«المنافسة السياسية» بين السلطة ومن يعارضونها!
هذه نظرية مثيرة تحتاج في
مناقشاتها إلى ممارسة النقد الأيديولوجي والتحليل الثقافي معاً!
* كاتب مصري |