منـــذ عامين، لـــم تــعد ثورة السوريين هي ذاتها، فقد باتت في مـــجال آخـــر، في موضوعاتها، وخطاباتها، ومشـــكلاتها، وفي مسـار آخر نسبة لأشكال عملها، والقــــوى المؤثرة فيها، إلى درجة يبدو معها إنكار ذلك بمثابة تعمية على الواقع، او ميلاً لاستمراء العيش على الأوهام، وهو ما لا يخدم قضية السوريين.
ثمة عوامل عدة ساهمت في حصول هذه الانزياحات، ضمنها، أو الأساسي فيها، تفلّت النظام من أية قواعد، أو حدود، سياسية أو أخلاقية، في استخدامه القوة العسكرية الغاشمة لفرض سيطرته، في محاولته قتل تطلع السوريين المشروع للحرية والتغيير السياسي. وقد يجدر التذكير هنا أنه منذ تموز (يوليو) 2012، مثلاً، بات عدد ضحايا القصف الجـــوي والمدفعي بين أربعة إلى خمسة آلاف، كمعدل شـــهري (وفي أشهر معينة وصل الى ستة آلاف)، بعد ان كان يتراوح بين الف والفين، علماً ان عددهم كان بين 600 ـ 800 في أول ستة أشهر من اندلاع الثورة، أي الأشهر السلمية، حيث لم يكن وقتها لا سلاح ولا مسلحون، وبالطبع لا «داعش» ولا «نصرة» ولا «علوش».
وقد يجدر لفت الانتباه هنا إلى ان توحّش النظام ترتّب عليــــه، ليس قمع الحراكات الشعبية فحسب، وإنما تحـــويل الثـــورة مـــن حالة صراع على السياسة والسلطة، إلى حالة صراع على الوجود والهوية، وهـــذا هو الأخطر، وهو ما نجح النظام فيه، وأكسبه عنصــر قوة مضافة، وهو ما لم يكن بالإمكان تداركه وتفـــويته، بسبب تدني الوعي بمخاطر هذا التحول، وبحكم الطابع العفوي للثورة، وغياب الاجماعات بين القوى التي حاولت تصدرها، او التعبير عنها.
في المحصلة فإن القوى المعنية لم تنتبه جيداً لاستراتيجية النظام الرامية لحرق الأرض من تحت «أرجل» الثورة، وتصحيرها، وحرمانها من البيئات الشعبية الحاضنة لها او المتعاطفة معها، بل تحويل قطاعات واسعة من السوريين، تُقدر بالملايين، إلى حالة تثقل على الثورة بدل ان تكون حاملاً، او حاضناً لها، وهو ما توج بحرمانها من عمقها الشعبي. هكذا تمت عملية إزاحة غالبية المجتمع السوري من المشهد، إن مع وجود «طوائف» الخائفين والحائرين والقلقين، أو بحكم استهداف البيئات الشعبية الحاضنة للثورة بالحصار والتقتيل والتدمير، كما بسبب تشريد أهالي مدن بأكملها، داخل وخارج سورية.
يأتي ضمن العوامل، التي أخرجت الثورة عن مســـارها، تلكؤ المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته إزاء تحديد مستوى العنف، ووضع حدود للسيطرة عليه، أو إزاء إيجاد حل سياسي للمسألة السورية. والـواقع فإنه في هذين الأمرين تعرضت ثـــورة السوريين لانتكاسة خطيرة، وربما إلى نوع من «خيانة»، سواء مع وعود التدخل مختلف الاشكال، أو مع تغذية الأوهام بشأن «الخطوط الحمر»، من نوع «حلب خط احمر»، و «الكيماوي خط احمر»، وصولاً إلى الحديث عن اعتبار النظام غير شرعي، وأن على الأسد ان يتنحى، مروراً بوعود الدعم المادي والتسليحي والسياسي، وهي وعود او أوهام ساهمت فيها قوى دولية وإقليمية وعربية معروفة.
المشكلة أنه على هذه الوعود، والأوهام، جرى رفع مستوى وتيرة الصراع في سورية، ليس من حيث مقاصده، وإنما من حيث اشكاله، ووتائره، او الرؤية التي جعلته يسير على النحو الذي سار عليه. أي ان السوريين، من غير ذلك، كان بإمكانهم ان يسيروا على نحو آخر، ربما أكثر تأثيراً، وفاعلية، حتى لو كان اطول زمناً، لكن بأثمان وأكلاف وعذابات أقل، هذا بالقياس إلى الأهوال التي اختبروها طوال الأعوام الأربعة الماضية.
على أية حال ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والمداخلات الخارجية المضرة، من الأعداء و «الأصدقاء»، عدة ظواهر، أولاها، انحسار الثورة السورية، وخروج الوضع من تحت سيطرتها، من دون ان يعني ذلك انتهاءها، بدلالة تراجع مكانة إطاراتها، او تعبيراتها، السياسية والعسكرية والمدنية والإغاثية. وثانيتها، تحول سورية ساحة مفتوحة، للصراعات الدولية والإقليمية والعربية، على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين، وبما يضر الثورة والمجتمع. وثالثتها، تصدر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، او كنتاج للمداخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
طبعاً، ليس ثمة مجال هنا للحديث عن أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، لأن القول بذلك مجرد تعبير نظري، إذ إن الواقع، او التاريخ، يشتغل على النحو الذي يتشـــغل عليه، بمعزل عن النوايا، وعن النظريات. والمعـــنى أنه لم يكن متاحاً للسوريين، ولا بأي شكل، ثــورة، أو حراكات شعبية، على المسطرة، او بحسب التنظيرات الكلاسيكية المعروفة، لأن المقدمات التـــي تؤدي إليها لم تكن متوافرة اصلاً، ولا كان من الممكن توفرها في المدى المنظور، فما كان متوافر هو استمرار الاستبداد فقط، واستمرار حال تغييب وامتهان السوريين، ومصادرة حقوقهم كبشر.
هذا لا يلغي ناحيتين، اولاهما، أن القوى، أو الشخصيات، التي تصدرت الثورة السورية لم تثبت ذاتها، حتى بالمعنى النسبي، بخاصة أنها لم تحافظ على مكانتها إزاء المداخلات الخارجية المضرة، ومالت أكثر نحو الارتهان لهذه القوى، على حساب مصلحة السوريين، وسلامة مسار الثورة السورية. وثانيتهما، أن الموازنة بين كلفة الثورة، وضرورتها، في هذه الظروف تبقى مجالاً للتساؤل لا سيما على الصعيد الأخلاقي، ومع كل الأكلاف والعذابات والمعاناة التي كابدها السوريون، والتي بالتأكيد يتحمل النظام المسؤولية الأساسية فيها. ذلك ان مسؤولية اية ثورة تقليل الاكلاف، لا زيادة وطأتها، او التعامل معها من دون مبالاة وكأنها تحصيل حاصل.
ثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، واعاقت طلبهم الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، وفي رؤيتهم لذاتهم، ينبغي تداركها، والعمل على ترميمها، لأنه من دون ذلك قد تذهب هذه الثورة من الانحسار إلى الأفول، وربما يصبح الوضع السوري حينها مجرد لعبة للصراعات الدولية والإقليمية.
|