الأثنين ٢٥ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٢١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
«المقاومة» وتشكل الهويّة الوطنية الفلسطينية - خالد الحروب
خضعت تمظهرات الهُويّات الفلسطينيّة لتحوّلات عميقة وجذريّة في التاريخ المعاصر في سياق حقبة ما بعد الاستعمار الغربيّ للمنطقة، واستمرار السياق الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين. في السياق الإقليميّ، تنافست هُويّات قوميّة وحديثة تحيط بفلسطين على استبدال وَ/أو إعادة إنتاج مزيج الهُويّات المتبقّية من الماضي البعيد والماضي القريب، نحو الهُويّات (وتفرّعات الهُويّات) الدينيّة والإسلاميّة والعروبيّة والقَبَليّة والإقليميّة. 

استنزفت النخب الحاكمة في الدول القوميّة الوليدة في الشرق الأوسط طاقاتها في سعيها لتأسيس (أو بالأصحّ تخليق) هُويّات وطنيّة متميّزة حول ما يُفترض أن تدور حولها «القوميات» الوليدة و «مواطَنتها». وبعد عقود على نشوء الدول الوطنية (القُطْرية) العربية، لم تتم بعد تسويةُ التوتّرات بين المركّبات المختلفة (والمتضاربة أحياناً) لهذه الهُويّة الموحّدة المنشودة، والتي تدور في المقام الأوّل حول صدارة مكوّناتها الدينيّة أو القوميّة.

بعض تلك التوترات يجد صداه في عمليّات تشكيل الهُويّة الفلسطينيّة وإعادة تشكيلها. بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر حتّى يومنا هذا، يمكن النظر إلى الجدال والتنافس والتصالح وَ/أو الصراع بين «القوميّ» و «الدينيّ» كمسار تكامليّ في عمليّة صوغ الهُويّة الفلسطينيّة، وكجزء من عمليّة تدوين تاريخ هذه الهُويّة.

على رغم ذلك، تبقى فكرتا «القوميّ» و «الدينيّ» عاجزتين عن توفير فهم شامل لنشوء الهُويّة الفلسطينيّة وتشكيلها بالمنظور التاريخيّ. وعلى رغم الطبيعة النافذة لهاتين الآليتين في تأسيس الهُويّات، فقد جرى تطويعهما -كما ستدّعي هذه المقالة- لسياق وسيرورة أقوى، ألا وهي المقاومة التي أدت فكرتها دوراً عظيماً في التأثير بمفهوم الفلسطينيّين لذاتهم الجماعيّة، وبخلق «فلسطينيّتهم». وبوعي أو من دون وعي، تحوّل فعل المقاومة إلى «مانح» الشرعّية المركزيّ، وأُجبِرَ حتى «القوميّ» و «الدينيّ» على تقديم (وإعادة تقديم) أنفسهما للجماهير من منظور المقاومة. الملاحظات سوف تركز على مرحلة ما بعد الحرب، اقترابا من سؤال: وماذا بعد؟

العوامل المشتركة التاريخية والثقافية والاجتماعية تلك، وإلى جانب طبيعة العلاقة مع «الآخر» والرغبة في التمايز عنه، وقفت وراء تبلور الهويات الوطنية كنتاج سيرورات مركبة وظروف مختلفة. طبيعة العلاقة مع الآخر في فضاءات عريضة من العالم حددتها تجربة الكولونيالية الغربية التي ساهمت في بروز هويات وطنية واستقوائها في البلدان المُستعمرة. لكن هذه الهويات لم تكن نتاجاً حصريا لهذه الكولونيالية، بل هي إعادة استحضار لمكونات تاريخية وجغرافية وثقافية وتشغيلها في إنتاج «هوية وطنية» مقاومة للاستعمار. وهكذا، فإن «المقاومة» اشتغلت عملياً على إعادة صوغ تصور الجماعة الوطنية عن نفسها، وأصبحت الآلية الأهم في تشكل الهوية الجمعية. وفي الوقت ذاته لا يمكن القول إن المقاومة هي الآلية والمكون الحصري للهوية الوطنية حتى لو كانت تلك الهوية قيد الاستعمار.

ويمكن تصور عبور الهوية الوطنية في العصر الحديث وفي السياق الكولونيالي وما بعد الكولونيالي في مرحلتين: الأولى انتزاع «الوطنية» والتحرر من المستعمر، ثم انتزاع «المواطَنة» من النظام السياسي في مرحلة الاستقلال. معنى ذلك أن التحرر من الاستعمار لا يجلب معه التحقق الكامل للهوية الوطنية، بل تخلصها من السيطرة الخارجية فقط، بينما لا تُنجز تماما إلا من خلال تحقيق «المواطَنة» في المرحلة الاستقلالية التالية.

ومن المهم مفهومياً كسر حصرية المقاومة بالكفاح المسلح، فإضافة إلى هذا الأخير فهي تتضمن الأفكار والآليات والممارسات والجهود التي تتوجه أساساً نحو رفض النظام الفوقي للاستعمار أو القوة الأجنبية المسيطرة والتمرد عليه والتخلص منه، وهذه كلها تشكل مع الزمن وتكرس الفعل المقاوم الوعي بالذات الجمعية، ويصبح الالتزام بها، سواء عبر الممارسة المباشرة أو الإقرار بشرعيتها، هو المُعرف الأساسي لمعنى الانتماء لقوم ما. على ذلك قد تكون المقاومة، في السياق الفلسطيني مثلاً، الكفاح المسلح، أو المقاومة السلمية، أو النضال ضد السياسات العنصرية (كما في حالة فلسطينيي الداخل).

وخلال مرحلة التحرر من الاستعمار، فإن المقاومة (على المستوى الفلسطيني وغيره) وتبعاً لتعقلها بكونها مؤسساً تكوينياً مرتبطاً بالهوية تشتغل على عدة مستويات مهمة. أولها أنها تعمل على منح الشرعية وحجبها عن الأفكار والممارسات التي تنشأ تحت الحكم الكولونيالي. فمن (وما) يلتزم بالمقاومة وأهدافها وينخرط فيها ينتمي إلى «الجماعة الوطنية» ويتصف بـ «هويتها». وثانيها، كونها تصبح أحد أهم معايير التأثيم الفردي والجماعي، بدءاً من الحد الأدنى، وهو الشعور بالتقصير لعدم الانخراط فيها وممارستها، ووصولاً إى الحد الأعلى، وهو الطرد من الهوية الوطنية في الحالات القصوى، كالخيانة والتخابر مع العدو. وثالثها أنها تعمل على شرعنة الفعل النظري والعملي: السياسي والديني والاقتصادي والفني والثقافي، وتعطيه رخصة مزاولة الحياة الاجتماعية: وينشأ تبعا لذلك «الاقتصاد المقاوم» و «الفن المقاوم» و «الدين المقاوم»، وكأن أياً من هذه الأنشطة لن يتمتع بممارسة الشرعية الكاملة ما لم يرتبط بالمشروع الأعلى «المقاوم».

تطورت مركزية المقاومة في سيرورة تشكل الهوية الفلسطينية ومرت في حقب متلاحقة، الأولى حقبة توتر الهوية العثمانية- العروبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفيها احتارت النخب الفلسطينية كما غيرها في المشرق، بين الهوية العثمانية التاريخية والعروبة الصاعدة، ثم تسارع الانحياز للأخيرة بالتوازي مع اشتداد «المقاومة» للاستبداد التركي (وخروج المخططات الصهيونية في فلسطين إلى العلن). الحقبة الثانية، هي فترة الانتداب البريطاني وتبلور المشروع الصهيوني، وهنا ازدادت تمظهرات الهوية الفلسطينية على رافعة مقاومة شراء اليهود أراضي فلسطين، ومقاومة المنظمات اليهودية وكذلك الجيش البريطاني. في هذه الحقبة برزت حركة عز الدين القسام في الشمال الفلسطيني، واتسمت باستقطابها القرويين والفلاحين، واتسعت شعبيتها، وصارت عنوان «المقاومة»، وزاحمت العلمانية الفلسطينية والأحزاب والعائلات المدينية الكبيرة، سواء في القدس ونابلس أو حيفا ويافا، على امتلاك القيادة. الحقبة الثالثة، تمتد من النكبة إلى منتصف الستينات، وتتسم بضياع البوصلة الوطنية وتشتت الهوية على إثر كارثة النكبة وتهجير نصف الشعب الفلسطيني. ترافق ذلك مع سيطرة أردنية على الضفة الغربية، ومصرية على قطاع غزة، وتمويه «الفلسطنة» على المستوى الرسمي، ومع صعود فكرة القومية العربية (وحركة القوميين العرب) على المستوى الأيديولوجي الذي أراد تجاوز «القطري» إلى «القومي». الحقبة الرابعة، من منتصف الستينات إلى أوسلو، وهنا عادت الهوية لتعيد تمركزها حول المقاومة، متجسدة في بروز حركة «فتح» وتبلور المقاومة بكونها العماد الناظم المركزي للهوية الفلسطينية. وهنا تم انتزاع تمثل الهوية الفلسطينية ثم ترسيخها وتثبيتها أمام الأردن ومصر وإسرائيل، وكل ذلك من خلال تبني المقاومة فكراً وممارسة وأيديولوجيا و «طريقة حياة».

الحقبة الخامسة والأخيرة هي فترة ما بعد أوسلو، حيث توقفت المقاومة (كإطار جامع للهوية والفاعلية الفلسطينية) وانتقل الوضع الفلسطيني إلى الغموض الخطر. ومكمن الخطر في هذه الحقبة يتمثل في الوقوف في منتصف الطريق حيث أخرجت المقاومة ذاتها من المعركة ضد المستعمر قبل إنهاء مهمتها الطبيعية، وهي التحرر والاستقلال، وقبل الانتقال إلى الدولة الحاضنة الحديثة للهوية الوطنية. أدى ذلك إلى بروز مشروعين متناقضين: المقاومة عند «حماس» والحل السلمي عند الفصائل الوطنية، وبذلك لم تعد المقاومة هي المشروع الناظم والجامع للفاعلية والهوية الفلسطينية. وخلال الحقب الزمنية، راكمت منظمة التحرير وحركة «حماس» رأسمال مقاوماً تم استنزافه في مشروعين غير متجانسين: المفاوضات والأسلمة. رصيد فصائل منظمة التحرير من سنوات الستينات وحتى أوسلو تم استنزافه في مشروع المفاوضات وبناء السلطة الفلسطينية، ورصيد «حماس» المقاوم تم استنزافه في مشروع الأسلمة المجتمعية. ومع نفاد الرصيد المقاوم بأكمله عند الطرفين تنكشف المشاريع الخلافية ويصطدم بعضها ببعض وتتحرك من دون إقناع وفي غياب غطاء المقاومة. 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
وقف نار غير مشروط في غزة بوساطة مصرية
تل أبيب ترفض التهدئة وتستدعي قوات الاحتياط
مصير الانتخابات الفلسطينية يحسم اليوم
استطلاع: «فتح» تتفوق على «حماس» والبرغوثي يفوز بالرئاسة
المقدسيون مدعوون للانتخابات عبر مراكز البريد
مقالات ذات صلة
حرب غزة وأسئلة النصر والهزيمة! - أكرم البني
أيضاً وأيضاً: هل يتوقّف هذا الكذب على الفلسطينيّين؟ - حازم صاغية
لا قيامة قريبة لـ«معسكر السلام» - حسام عيتاني
إعادة اختراع الإسرائيليّة والفلسطينيّة؟! - حازم صاغية
... عن مواجهات القدس وآفاقها المتعارضة - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة