قبل أربع سنوات بالتمام والكمال، أقدم شاب تونسي على اضرام النار في نفسه احتجاجاً على شرطية أقدمت على صفعه وطرده مع عربة خضاره من أحد شوارع مدينة سيدي بوزيد التونسية. كان يمكن الخبر أن يرد في صفحة الحوادث في أي إعلام محلي، أو لا يرد أصلاً لكون طريقة الاحتجاج هذه لم تكن الأولى من نوعها في البلاد. لكن لهيب الحادثة امتد الى قصر قرطاج في العاصمة وطرد منه الرئيس زين العابدين بن علي، ومنها الى مصر وليبيا واليمن وسورية... فإذا به «ربيع عربي». قصة وردية بسيطة، تكاد تنفع للأطفال قبل النوم.
وعليه، أصبح محمد البوعزيزي، الذي قضى لاحقاً متأثراً بحروقه، أيقونة الاحتجاجات الشعبية العربية المطالبة بالحرية والكرامة وفرصة عمل. وتحولت الشرطية بدورها الى رمز للأنظمة القمعية التي تستسهل اهانة شعوبها وقمعها، وعدم الالتفات الى حاجاتها، ولا تتوقع في المقابل أي رد فعل. فهكذا جرت العادة منذ عهود الاستقلال وليس ما كان يشير الى احتمال تبدلها.
المقابل المصري لمحمد البوعزيزي كان الشاب خالد سعيد، الذي قضى تحت التعذيب في مركز للشرطة، بتهمة حيازة المخدرات فتحول بدوره الى قنبلة موقوتة انفجرت بعد ايام في ميدان التحرير وأجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي.
وعندما وصلت الشرارة الى سورية، التي لم يتوقع أحد أن تصلها، بدا أننا نعيش فيلماً رومانسياً مما يسمى «الزمن الجميل». فيلم ينتصر فيه الخير على الشر، والحق على الظلم، والفرح على الخوف، حتى بدا أننا كنا جميعاً باختلاف تجارب بلداننا وأنظمتها «هرمنا بانتظار تلك اللحظة التاريخية».
لكن القصة البسيطة تعقّدت وكثر «الأشرار» فيها. حتى تبدو اليوم الكتابة عن تلك اللحظات أشبه باستعادة ماض سحيق وجميل بلا شك، لكنه مضى. لوهلة يبدو أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تلك الاحداث تقارب الأربعين عاماً وليس فقط أربعة أعوام.
هل حقاً صرخ التونسيون في وجه رئيسهم «إرحل» فرحل؟ وهل فعلاً ملأ المصريون، كل المصريين باختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية، ميدان التحرير ووقفوا في وجه الشرطة والامن و «البلطجية» صفاً واحداً؟ هل صحيح أن السوريين هتفوا «سورية بدّا حرية»... ام ان ذلك كله شبّه لنا؟
ثمة شعور بالهذيان اليوم يتملكنا لدى النبش في تلك الصور القديمة التي زحف الابيض والاسود اليها فامتص كل لون وروح فيها. ذاك أن تونس نفسها التي قد تكون الأنجح في هذه التجربة المريرة، لم تفلح في تحقيق ما خرج شبانها لأجله. صحيح أنها اقامت انتخابات رئاسية ناجحة، وثبتت مداورة للسلطة تمنع احتكارها، وأتاحت هامشاً أوسع لحرية التعبير، لكنه يبقى أضيق من مطامح أبنائها. فلا يزال اعتقال الناشطين (واغتيالهم) سارياً، ولا تزال البطالة تسجل الارقام الأعلى في منطقة ترزح كلها تحت أرقام هي الاسوأ عالمياً. وثمة من يستثمر استثماراً ناجحاً في دوامة الاحباط والفقر وانسداد الافق تلك. فليس من قبيل المصادفة ان تكون تونس نفسها، «الأنجح»، الاولى في تصدير «الداعشيين» للقتال في سورية.
لا حاجة طبعاً الى الاستفاضة في شرح الوضع الليبي، حيث القبائل خرجت من قمقمها تتناحر على السلطة والجغرافيا، ولا الحالة اليمنية التي أدخلت الاطراف السياسية في ثلاجة «المصالحة» وقطعت عنها الكهرباء، أو حتى مصر التي تكشف فيها ان حزب «آسفين يا ريس» هو الاكثر شعبية وقبولاً بين الناس. أما سورية... فلنحدد قبلاً عن أي سورية نتحدث. هل هي مناطق النظام أم «المناطق المحررة» ام تلك التابعة للدولة الاسلامية. هذا ولم نفكر بعد في العراق ولبنان وفلسطين مثلاً أو حتى الجزائر التي أحيت رئيساً من تحت رماد تفادياً لانتقال العدوى الربيعية اليها.
جردة الحساب السريعة هذه لا تدعو الى التفاؤل من دون أدنى شك، فهي تتركنا أمام خيارين احلاهما مر. فإما إبقاء الانظمة السابقة أو اعادة اختراعها بصيغ ووجوه جديدة تحمل النهج نفسه، أو الانضمام الى حضن «الدولة الاسلامية»، التي تملك تصوراً واضحاً لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة، وتسعى اليه بكل ما أوتيت من قوة ووسائل. أما الخيارات الوسطية والمدنية، تلك التي نادت بالحرية والكرامة وفرصة عمل، فهي اليوم أمام تحدٍ أصعب وأكبر مما كانت عليه قبل 4 سنوات. إذ بات عليها اليوم أن تقيم مراجعات فعلية وصادقة، لا للمطالب المحقة، بل لأدواتها وخطابها علّها تصل الى صوغ رؤية واضحة تستعيد فيها من خسرتهم وتنتصر لمن قتلوا وسجنوا وهجّروا واختفوا قسراً... قبل 40 عاماً. |