لم يعد سهلاً التمييز بين الدين بما هو نص مقدس يؤمن المؤمنون
أنه نزل من السماء وبين محتوى فكري وإعلامي هائل يظن أنه ديني وتطبيقات كثيرة مستندة إلى الدين، وصارت
المجتمعات المتدينة تتلقى أفكاراً ودعوات يقدمها أصحابها على أنها دين وأن مخالفتها تستوجب التعزير في
الدنيا والعذاب في الآخرة، من الحكم والفقه والتطبيقات السياسية والاقتصادية والتجارية إلى التداوي
بالدين والسلوك اليومي المبرمج دينياً، فلا يعرف المتدينون التمييز بين مخالفة الدين في دخول الحمام
بالرجل اليسرى والخروج باليمين وبين العبادات الرئيسية، أو بين الفردي الشخصي في الدين والجماعي، وبين
النسبي والمطلق واليقيني والظني، والتجارب التاريخية باسم الدين وبين الدين
نفسه.
درج الخطاب الديني على تقديم نفسه من خلال مؤسسات علمية ومذهبية تقدم
للأفراد والمجتمعات ثم الدول دليلاً للفهم والتطبيق، ولكن هذه المؤسسات انقرضت في العالم السنّي لتحل
محلها وزارات حكومية ملأت الفراغ المؤسسي بكفاءة ولكنها لم تقدر أن تحصل على الثقة الكافية لاتباعها
علمياً وتطبيقياً، وسلكت المجتمعات في موجة اتباع مهووس بكل ما هو ديني في الكتب والفضائيات والمساجد،
ثم لحقت السلطات بالمجتمعات والأفراد محاولة مجاراتها لتتحول هي الأخرى إلى دول دينية أكثر من أية مرحلة
تاريخية حتى تلك الموصوفة بأنها تمثل زمناً دينياً جميلاً ونقياً.
في ظل هذا
اليقين الديني الكاسح والقائم على مصادر وأخبار ظنية متناقضة ومتعددة نشأت سوق دينية مزدهرة يقودها
العرض والطلب والمزايدة، ولم يعد أحد، حتى أهل السلطة ،قادراً على تحدي فكرة دينية أو مناقشتها، وصارت
أية فكرة «دينية» سيفاً مسلطاً على الناس لا يمكن ردّها حتى لو لم يكن لها أصل في الدين، أن تقول عن
الخلافة إنها مسألة بشرية يساوي إنكار الصلاة والصيام، وألا تصدق أن المسيح سوف يعود ويقتل الخنزير
ويكسر الصليب (طيب حتى لو عاد لماذا يقتل الخنزير ويكسر الصليب؟) أو أن آدم وهب داود ستين عاماً من عمره
أو أن لطم موسى ملك الموت وفقء عينه يساويان عدم الإيمان بالله والأنبياء واليوم
الآخر...
المؤسسة الدينية الرسمية المحرجة من النصوص والتي تحاول أن تبدو أكثر
إسلاماً من الجماعات الدينية تبدو تبريرية عاجزة في مواجهة جماعات تملك الجرأة والوضوح لترى إباحة
الجواري وتدعو إلى رجم الزاني وضرب المرأة ورفض مساواتها بالرجل، وإرضاع الكبير، وقتال غير المسلمين حتى
يدفعوا الجزية... ويظل سؤال معلق أمام المؤمنين كيف يفهمون مثل هذه النصوص وكل النصوص الدينية؟ الذين
شكلوا التدين الرسمي السائد تاريخياً تجاهلوا مثل هذه النصوص ويفكرون في المسائل ويفهمونها بعيداً عن
ظاهر النص، لقد كان ذلك حالة مهيمنة وسائدة ولم تواجه تحدياً سوى من جماعات هامشية من السلفيين
والعقلانيين، وظلت الوسطية وواقعيتها ومؤثراتها الاجتماعية والسلطوية والطبقية قادرة على تشكيل الوعي
الديني وتطبيقه على مدى القرون الماضية على نحو غير حاسم فكرياً وعلمياً، وإن كان متقبلاً في محصلته،
وفي الوقت نفسه فإن محاولات فهمه كما هو بوضوح ظاهري (السلفية) أو وفق مناهج علمية عقلانية مردها إلى
الإنسان (الأنسنة) هي محدودة وهامشية، حتى عاود الاتجاهان حضورهما.
السلفي
أنشأ حالة غير مسبوقة من التدين والتطبيق الذي يحظى بتأييد جماهيري كبير، ولكنها صارت تحدياً للعالم
والمسلمين، والرسمي الوسطي والاستيعابي لم يعد ملائماً وموثوقاً للمتدينين ولا المؤمنين من غير اتباع
السلفية. المخرج والبديل لكليهما خطاب ديني جديد طالما حاربته السلطة والجماعات معاً، ولكنه اليوم يبدو
هو الحلّ، وبغير ذلك يبدو لا خيار أمام المجتمعات والدول سوى التدعشن أو التخلي عن
الدين.
* كاتب أردني
|