ثمة من يسخر اليوم من الدعوة إلى إحياء المجتمع المدني ونشر ثقافته ويعتبرها خروجاً عن مألوف الصراع الدموي أو ضرباً من الأوهام وجهداً ضائعاً لا جدوى منه في ضوء الوضع الكارثي، إنسانياً وعمرانياً، الذي وصلت إليه البلاد مع تمادي لغة العنف وظواهر الانقسام والاحتراب، ومع تنامي التدخلات الخارجية وتفاقم أزمة معيشية تفقد البشر أبسط مقومات استمرارهم في الحياة، والأهم مع تشديد الخناق على الناشطين المدنيين والنيل منهم.
صحيح أن فرص حضور المجتمع المدني تبقى محدودة في ظل غياب الأمن والاستقرار وسيادة لغة القوة والسلاح، لكن الصحيح أن غيابه، نتيجة القمع المزمن وازدراء مؤسساته وتهميشها، كان سبباً قوياً لهذا التفاقم المذري للصراع السوري وخروجه عن السيطرة وعن المعالجة السياسية العقلانية، والصحيح تالياً أن النهوض بالمجتمع المدني والاحتكام إلى قيمه ومفاهيمه هو اليوم واحد من الخيارات الحيوية المطلوبة لمواجهة هذا الخراب، بما هو رهان على جماعات ومكونات وطنية تعددية قائمة على الانتماء الطوعي وتلتف حول أنشطة ثقافية أو حقوقية أو خدمية بدافع المصلحة المشتركة للناس في حماية مصائرهم من أوضاع باتت تهدد حياتهم ومستقبلهم، وبما هو رهان على ثقافة وأفكار حداثية تبرز معنى الحرية والحقوق الفردية والمساواة بين البشر من دون النظر إلى اللون والجنس والدين والقومية، وتشكل مدخلاً لإعادة البناء على مفهوم الوطن والمواطنة والعقد الاجتماعي الديموقراطي.
ونسأل، ألا تأنف ثقافة المجتمع المدني الدخول في مواجهات إقصائية وصراعات حادة، وتشدد على طرائق الحوار وبناء التوافقات وفتح قنوات للتفاعل الاجتماعي السلمي؟ ألا تستمد قوتها من خلق تراكمات في الوعي والعمل الملموس لمحاصرة الاندفاعات العدوانية ولاعتراض مسار عنفي ينذر بما هو أسوأ؟ ثم لماذا يغيب عن البال دور المجتمع المدني في محاصرة ظواهر التفكك ومحاربة الشروخ والاصطفافات ما دون الوطنية، وفي نقد المناخ القائم على تغذية روح التمييز والتفرقة الطائفية أو الدينية؟ أوليس في نشر القيم المدنية عن المساواة والتسامح واحترام ظواهر التعددية وحق الاختلاف، ما يخفف حدة الاستقطابات ونوازع التطرف والمغالاة ويحاصر أدواراً داخلية ومصالح خارجية تتطلع إلى إعادة صوغ المجتمع السوري على أسس متخلفة إثنية وطائفية لتسهيل السيطرة عليه والتحكم بمصيره؟
ثم ألا تعزز هذا الخيار الحاجة الملحة اليوم إلى إحياء روح التكافل والتضامن بين الناس وحفزهم على معالجة تدهور شروط حياتهم وهم متحدون ومتعاضدون، وتالياً تمكينهم، بصفتهم أبناء مجتمع واحد، من مواجهة مخلفات العنف والفقر والعوز الشديدين وضغط ظروف حياتية مرشحة لمزيد من التفاقم؟
وأيضاً نسأل، ألا تشكل فكرة إحياء المجتمع المدني أحد مفاتيح الرد على الاستباحة غير المسبوقة لبلادنا من جانب أطراف خارجية صار لها مصلحة مباشرة باستثمار الصراع السوري في حسابات الهيمنة والنفوذ، أو كلغة مشتركة للرد على واقع يعاني من انهيارات أخلاقية وقيمية ومن تراجع روح المواطنة ومقوماتها؟ ولم نبخس حق التشابكات المتنوعة بين الأفراد والفئات المختلفة في حماية الدولة والمجتمع، وبقايا المدنية فيهما حين تنطلق من اعتبار الشراكة المتكافئة في الوطن من دون غيرها من الروابط العشائرية أو الطائفية أو القومية أو الحزبية هي مصدر الحقوق والواجبات وأساس العلاقة والمساواة. ألا يقرب ذلك المسافات بين كتل وجماعات بدأت تعيش حالة من التخندق المتخلف حول الذات، ويعيد الاعتبار إلى وحدة الوطن وسيادته في مواجهة محاولات تفكيكه وتمزيقه والاستيلاء على مقدراته؟
والحال، مع غلبة منطق العنف وانحطاط الحقل السياسي وذهاب أصحابه بعيداً وراء الحسابات الأنانية والمصالح الضيقة، تظهر اليوم أهمية نشر ثقافة المجتمع المدني وتنمية دوره وتمكينه، كظاهرة إنقاذية واعدة ترتبط بالقدرة على الإنتاج والعطاء من منظور إنساني بحت، بما يعني إيلاء البنية المجتمعية المنهكة والمفككة الأولوية، إن في رعاية ما تفرزه معاناة البشر من تضامنات تحتية لا تخضع لبرنامج حزبي أو لإرادة سياسية، وإن بتشجيع المبادرات الذاتية والجمعية التي تعزز إيمان الناس بحقوقهم وبقدرتهم على التعايش ووقف التدهور المستمر.
لكن المتضررين من حضور المجتمع المدني ومن انتشار ثقافته كثر، ويجمعهم خيط واحد هو خوفهم على مواقعهم وامتيازاتهم من حراك المجتمع واستعادة دوره، ما يفسر حالة الحصار والتضييق المتعمد من جانب مختلف أطراف الصراع على الناشطين المدنيين، منهم من لا يزال في سجون النظام، كالحقوقيين، خليل معتوق وجديع نوفل وعمر الشعار، والصحافيَينِ مازن درويش ولؤي حسين وغيرهم كثيرون، ومنهم ناشطون مدنيون ومنتخبون في المجالس المحلية وإعلاميون جرت تصفيتهم أو اعتقالهم على يد المتشددين الإسلامويين في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة، وأبرزهم الحقوقيون الأربعة، رزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حمادة وناظم حمادي، وقد مضى عام كامل على اختطافهم المدان واختفائهم المريب!
«كل شيء باهظ الثمن اليوم إلا الإنسان» هي عبارة يكررها السوريون ليظهروا الدرجة التي وصل إليها استرخاص حياة البشر، فكيف بحقوقهم وحاجاتهم! ما يشدد في المقابل على أهمية نشر ثقافة تقوم على النقيض وتركز على قيمة الإنسان بصفته الأثمن والأعلى والأرقى، الإنسان المكون من دم وروح والمتساوي مع الآخر بغض النظر عن قوميته ودينه وجنسه، والإنسان بصفته كائناً جديراً بالحياة والاحترام التامّين، وذاتاً حرة لها حقوق سياسية نابعة من حقوقها الطبيعية في الحرية والكرامة والاجتهاد.
بالنتيجة، يبدو التركيز على فكرة إحياء المجتمع المدني ونشر ثقافته خياراً حيوياً نحتاجه اليوم كأحد أهم قواعد الحماية الذاتية لبلادنا وللحد من تسلط أطراف الصراع وانفلاتها، وكمسار ثقافي وعملي يطلق آفاقاً جديدة لمصلحة إعلاء شأن الحياة والحرية والإنسان في مواجهة طغيان المصالح الضيقة وغطرسة العنف والقوة، ويتجه أساساً نحو البشر، لتقوية ثقتهم بأنفسهم وبجدوى دورهم في انتشال وطنهم من الوضع المأسوي الذي وصل إليه.
* كاتب سوري
|