من الكلمات الرائجة على ألسنة الساسة والصحافيين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام على وجه العموم، كلمة «العلمانية»، وهي لفظة دخيلة مبنى ومحتوى، وقد جعلوها ترجمة للمصطلح الكنسي المسيحيlaïcité. وهناك من يستعمل اللفظ معرباً فيقول اللاّيكية بدل العلمانية. وقد ظل هذا المصطلح المسيحي وعلى امتداد تاريخ الكنيسة يستعمل مقابل Ecclésiastique كهنوتي أو كنسي فيقولون كنسي ولايكي. Laïc et ecclésiastique 1.
فالمسيحي قد يختار إمّا حياة الكنيسة أي حياة الرهبنة والتبتّل وينتظم في الكهنوت وفق الشروط والأصول المتبعة لديهم؛ أو يختار حياة العالَم والمقصود بالعالم ليس كما قد يتبادر إلى الذهن الكرة الأرضية أو رجل العلم، وإنما لهذا اللفظ في المسيحية معنى آخر اصطلاحي، أي الناس والعالم وحياة الناس بما فيها من لذائذ، لهذا السبب نهت الكنيسة المؤمنين عن اتباع حياة العالم.
يقول القديس يوحنا الإنجيلي في الرسالة الأولى: لا تحبوا العالم وما في العالم، فكل ما في العالم من شهوة العين وشهوة الجسد وفخر الحياة».
وقال أيضاً: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ».
وصادف أن كان المترجم العربي الذي نقل أوّل مرّة هذا المصطلح (ويكتب على هذين الرسمين laïc / laïque ) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية مسيحياً قبطياً هو إلياس بقطر (عمل ترجماناً للحملة الفرنسية على مصر، وبعد انسحابها غادر معها وعمل مترجماً للحكومة الفرنسية ثم عُيّن أستاذاً في معهد اللغات الشرقية. وشرع في وضع قاموس فرنسي- عربي صدر بعد وفاته بثمانية أعوام، أي عام 1829 وسُمّي «قاموس الياس»). ولأن المترجم مسيحي فقد اختار، وهو موفق في ذلك، مصطلح العالَم (بفتح اللاّم)؛ وهو مصطلح كما تقدم مسيحي تجده في الترجمات العربية للكتاب المقدس، لتُشتق منه على غير قياس كلمتا عَلمانية وعلماني، ولو لم يكن المترجم مسيحياً لقال على أغلب الظنّ الدنيا والدنيوي، عوض العالَم والعَلمانيّة.
وهناك اليوم أخطاء شائعة في استعمال هذا المصطلح الدخيل والملتبس حتى في بيئته الأصلية، أخطاء تزيده غموضاً على غموضه الأصلي، منها التوظيف الإيديولوجي في المماحكة واللّجاج السياسي الهستيري السائد اليوم في العالم العربي الإسلامي. ومنها استعمال هذا المصطلح بكسر العين المهملة في أول الكلمة باعتبار الصيغة مشتقة من العلم Science وليس من العالم le monde، وهو خطأ وقع فيه عبدالله العروي نفسه، فما بالك بصحافيي الأجهزة وكتبة الفايسبوك من العوام. يقول عبدالله العروي في كتابه «السنة والإصلاح» (الصفحة 210): «أغلب الكُتّاب في هذا الباب كانوا من الشوام المسيحيين اختاروا كلمة علماني، من العلم، اقتباساً من كلمة scientist إذ التعارض كان بين العلم والدين...».
وهو يقصد كما يتضح من سياق كلامه جيل يعقوب صروف وشبلي شميل. وكلام العروي لا يستقيم لأن هؤلاء الشوام المسيحيين هم أدرى بمعاني ومدلولات كلمات مثل عَالم وعَلمانية الموجودة في كتبهم الدينية.
تعود جذور هذا المصطلح الفرنسي Laïc إلى الكلمة اليونانية القديمة لاووس والتي يرجعها إميل فنسنيت فقيه اللغات الهندو أوروبية إلى العصر الآخي وعصر هوميروس. وتعني هذه الكلمة، أي لاووس، وفق معجم بايي للغة اليونانية القديمة، الناس والبشر، أي جماعة غير محددة. ويميزها بايي عن لفظة ديموس والتي تعني الشعب. ويستمر بايي في تتبع سياقات استعمال هذا اللفظ اليوناني لاووس في الترجمة السبعينية أو السبعونية LA SEPTANTE، فيذكر أنه يأتي لدى المترجمين الاثنين والسبعين الذين نقلوا العهد القديم إلى الإغريقية حوالى سنة 270 قبل الميلاد بمعنى الناس من غير اليهود. ويكون ذلك أول استعمال لهذه الكلمة في اللغة الدينية (راجع قاموس بايي للغة اليونانية القديمة ص 1172 وما يليها)، ثم تنتقل كلمة لايوس اليونانية إلى اللاتينية فتصير لايكوس، وتعني الرعية والشعب عامة. والراهب اللاّي le prêtre Lai هو الراهب الذي يشتغل خارج الدير وسط الشعب.
وفي اللغة العربية القديمة تتجاور أيضاً معاني لفظتي العالم والناس والعالم والعالمين. ففي القرآن الكريم، وبإجماع كثير من المفسرين، أن المقصود بلفظ العالمين هم الناس. كما نجد هذا اللفظ بهذا المعنى لدى الجاحظ، ففي كتبه يأتي لفظ العالم والعالمين بمعنى العالم وسكانه، الدّنيا وأهلها؛ بيد أنّه لا يرد في القرآن أو لدى الجاحظ بالمعنى الاصطلاحي الكنسي للتعبير عن التقابل بين الديني والدنيوي، كما أن لفظ العالم بمعنى الناس نجد أثره باقياً إلى اليوم في اللهجات العامية في كثير من البلاد العربية، فهم يقولون يا ناس يا عالم، أي يا بشر وكثيراً ما ترى أحدهم يصرخ: يا ناس يا عالم افهموني. والربط نفسه تجده في اللغة الفرنسية اليوم، فلفظة Le monde لها معنى جغرافي، أي العالم بأسره كما تعني الناس وذلك وفق السياقات.
إذاً، من أين جاء غموض هذا المصطلح في اللغة العربية المعاصرة؟ الأمر بكل بساطة يعود إلى محتوى اللفظ في المسيحية التي تضع حاجزاً بين الحياة الروحية وحياة العالم كما حددها الحواري يوحنا الانجيلي، وهو حاجز لا نجده في الإسلام نصاً وتجربة تاريخية؛ فالإسلام لا يحقر حياة العالم، الحياة الدنيا، بل يحضّ على الإقبال عليها.
أيضاً، ثمة حاجز آخر لدى المسيحيين بين الحياة الدينية والحياة السياسية الزمنية، فأنت تجد، ومنذ فجر المسيحية الأول إحساساً واعترافاً بتمايز الدين عن الدولة الرومانية، ولم تظهر من العدم الآية في انجيل مرقص تقول: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلهِ لِلهِ»، والتي تحولت مثلاً سائراً.
أما على صعيد التاريخ فقد استـــولت الكنيسة في القرون الوسطى الأوروبية على كامل المجال الدنيوي، استولت على السلطة الزمنية وعلى الحياة المدنية بأسرها، فهي لديها مدارسها ومستشفياتها وقضاؤها ومحاكمها، كمحاكم التفتيش السيّئة الذّكر، وأراضيها ومقاطعاتها. ومنذ وفاة شارلمان تحولت روما مركزاً للسلطة الروحية والسياسية وصار تتويج الملوك من اختصاص البابا.
إذاً، الأمر يعود إلى طبيعة العلاقة في المسيحية بين التديّن والحياة الدنيا ويعود إلى التباعد القائم في المسيحية بين حياة الكنيسة الدينية وبين حياة العالم، أي الحياة الدنيوية، ولم تكن علاقة تباعد فقط، بل كانت علاقة تقابل ومفارقة وصراعات طويلة ومريرة خاضها الغرب على امتداد تاريخه بين سلطة الكنيسة والسلطة الزمنية كما يسمونها.
وفي الإسلام لا تجد ذاك التقابل بين الحياة الدينية والحياة الدنيوية. لم يضع الإسلام حدوداً وفواصل بين الدين والدنيا. لم يحقّر الإسلام الحياة الدنيا، كما أن الإسلام لم يفرز وعلى امتـــداد تاريخه مؤسسة دينية معزولة عـن حياة الناس الدنيوية، وبالتالي لا يوجد رجال دين، ثمة علماء وفقهاء يهتمون بالشأن الديني. لكن الأمر لم يكن دائماً على هذه الحال، فقد وقع أن ظهرت جماعات استأثرت لنفسها الكلام باسم السماء. كما ترك الإسلام الشأن العام: الحياة السياسية ونظام المدينة للاجتهاد البشري، وآيات الشورى لا تُحصى، وللفقهاء كلام كثير في هذا الشأن تجده في كتب الأحكام السلطانية.
أيضاً، من أوجه الاختلاف والتباين بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسيحية أنه لم يقع أن حكم الفقهاء اعتماداً على مؤسسة حكم أياً كان شكلها، بل كان الحكام في الغالب الأعم من أهل السيف ولم يكونوا من أهـــل القلم، وكثيراً ما اتبع رجـــال الدين رجال الحكم، وكثيراً ما برر الفقهاء للقامع قمعه. كانوا في الغـــالب تابعين لأولياء الأمر، أي من يتولى القيام بأمور الناس إماماً كان أو أميراً أو ملكاً. وهناك من وقف للحاكم وقال له أنت كافر كما فعل ذات يوم من ستينات القرن الماضي الشيخ مختار بن محمود عندمـــا وقف ردّاً على مطالبة بورقيبة النـــاس بالإفطار في رمضان صارخاً في وجه بورقيبة: هذا كفر. أو كما فعلت الباحثة في الفكر الإسلامي هنـد شلبي ليلة ألقت مسامرتها آخر رمضان في جامع الزيتونة، وهو تقليد دأب عليه ملوك تونس من البايات الحسينيين عندما كانوا يحضرون ختم القرآن والحديث آخر رمضان في الجامع الأعظم، وحافظ بورقيبة على هذا التقليد، وهذا أحد تناقضاته وغموض العلمانية لديه، والمفترض فيه كلاييكي عدم التدخّل في الشأن الديني. ولدى الانتهاء من المحاضرة مدّ بورقيبة يده للمصافحة فاعتذرت الأستاذة هند شلبي، ولملموا الفضيحة.
وإذا كانت الكنيسة في الغرب الأوروبي تقوم بحرق الفلاسفة بتهم الزندقة وحرق النساء بتهم ممارسة السحر، فإن الحكام في تاريخ الإسلام هم من كان يضطهد رجال الديـن والفلاسفة على حدّ السواء. فقد امتحـــن مالك ابن أنس رجل الدين كـــما امتحن من بعده ابن المقفع الفيلسوف وغيره كثيرون، ولعل آخـــرهم القاضي أبو الوليد ابن رشد عندما أحرقت كتبه ونفي إلى المغرب الأقصى ومات هناك. كان الملوك في تــاريخ الاسلام هم من يتحكم في الرعية، ومن ضمنهم الفقهاء، وهم من يولي ويعزل القضاة ورجال الإفتاء وشيوخ العلم، وهذا لا يعني أنه لـــم تكن هناك صراعات في حياة الإسلام ، بيد أنّه لم يكن الصراع بيــن الدين والدولة كما هو الشأن في تاريخ المسيحية، وإنما صراع بين تأويلات عدّة للنص القرآني الواحد واختلاف في تفسيره وقراءته وكثيراً ما اتخذ هذا الخلاف منحىً دموياً.
وإذ تعود إلى كتب الملل والنحل وهي كثيرة، وأشهرها كتابا عبدالكريم الشهرستاني وابن حزم الظاهري تقف على ذاك الثراء الواسع للجدل الذي كان قائماً بين أصحاب المذاهب والفرق، وعلى الصراعات في تاريخ الإسلام بين علماء الدين وفقهائه وبين رجال الحكم، اذ يميل الى هذا وذاك من الفقهاء، بيد أنه لم يكن صراع مؤسسة دينية مستقلة تريد أن تستولي على الحكم مقابل سلطة قائمة كما هو الشأن في تاريخ الكنيسة، بل كان صراعاً لا يختلف عن أي صراع ينشب بين سلطة قائمة ومعارضة، بل كثيراً ما ينكل برجال الدين لخروجهم على الوالي. إذاً لا صراع كما هو معروف وشائع في الاسلام بين الديني والدنيوي، وفي هذا السياق، يقول عبدالله العروي: التمييز بين الشرعي والسلطاني عادي عند الفقهاء.
واليوم يستعمل هذا المصطلح (العلمانية) في الجدل السياسي، ونشهد بالتالي حالة كاريكاتورية فهم يرمون بتاريخ الغرب ومن دون فحص على اللحظة الراهنة، وعند هؤلاء هناك أحزاب دينية تعامل ككنيسة إسلامية، وثمة رهط من المثقفين يعتبرون أنفسهم حاملين رسالة التنويريين الفرنسيين: فولتير وديدرو وجان جاك روسو، لهذا ترى محمد عابد الجابري يعتبر هذا المصطلح خاوياً كلفظ وخاوياً كمفهوم ولا يقول شيئاً. أما عبدالله عبد العروي فيقول: لا شك في أن اختيار لفظ علماني كان خطأ ولعب دوراً سلبياً في مسار الفكر العربي الحديث. لو اختير لفظ مثل دنيوي، مقابل أخروي، أو معاملاتي من معاملات مقابل عبادات، أو سلطاني مقابل شرعي، إلخ، لما استبشع في الأوساط التقليدية كما الحال مع لفظ علماني.
أخيراً، من ينقذ العرب من هذا الجدل البيزنطي العقيم والمكلف والذي لا ينتهي؟ |