الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٧, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
قصة كوباني من النشأة إلى المقاومة ومن فصلها عن حلب إلى محاولات «داعش» - آزاد احمد علي
لم يبدأ نجاح كوباني من لحظة قدرتها على مواجهة هجمات «داعش»، ولا إثر تزايد اهتمام الإعلام العالمي والعربي بها، وإنما منذ نشأتها كمدينة صغيرة، بائسة ومنسية، على حافة الحدود الدولية التي خطت على طول مسار قطار الشرق السريع مطلع القرن الماضي بين سورية وتركيا.

اثار تركيز هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» على ريف كوباني ومركز المدينة في الأشهر الماضية، تساؤلات عدة حول خلفية هذه الهجمة الشرسة وهدفها، وما الذي سيحققه تنظيم الدولة من وراء السيطرة على هذه المدينة تحديداً؟ ولماذا كل هذه الخسائر وهؤلاء الضحايا؟ كثرت الأسئلة التي تزداد صعوبة الإجابة عنها من دون معرفة أبرز مميزات منطقة كوباني، وبالتالي الالتفات إلى ثقلها الإستراتيجي، والاستعانة به لتفسير جانب من تعقيدات المعضلة والحدث.

تبدأ قصة نجاح كوباني في الربع الأول من القرن الماضي عندما تبلورت ملامحها كمركز حضري صغير، تأسس من تجمع لعائلات كردية حضرية، ومهاجرين أرمن فارّين من بطش السلطات العثمانية، إبان الحرب العالمية الأولى. ثم توسعت وانتعشت لتكون حاضرة لريف واسع شرق الفرات. بدأت حدود منطقة كوباني ترتسم وتترسخ بدءاً بمعاهدة سان ريمو (1920) واتفاقية أنقرة عام (1921) بين فرنسا والحكومة التركية، مقابل اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سورية. واستندت مشروعية هذه الحدود الى معاهدة لوزان عام (1923)، والتي تم بموجبها طي قرار معاهدة سيفر (1920) المتضمن إنشاء دولة كردية في المناطق ذات الغالبية الكردية الواقعة شرق نهر الفرات وتتضمن أيضاً كامل ولاية الموصل. فمن حيث الجوهر كانت اتفاقيتا سان ريمو وأنقرة تعديلاً، بل إلغاء لمعاهدة سيفر التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وشملت خفض مساحة أقاليم تركيا، وإنشاء دولة كردية في بعض ولايات الدولة العثمانية السابقة. ما تحقق عملياً هو ضم مناطق من ولاية دياربكر وأجزاء واسعة من سهول «ويرانشهر» و«سروج» إلى سورية التي كانت تتشكل كدولة، وكاتحاد لأقاليم فيدرالية في ظل الانتداب الفرنسي. سببت عملية رسم الحدود تمزيقاً للنسيج الحضري – الاجتماعي الكردي شمال خط القطار (تركيا) وجنوبه (سورية)، فتم حرمان هذه الأرياف من الاتصال بالمدن الكردية التاريخية في منطقة وسط وشمال سهول الجزيرة، كمدن ويرانشهر، سروج وأورفا، ما دفع الأهالي إلى استحداث مدينة جديدة وسوق محلية للأرياف التي ظلت جنوب الحدود السورية – التركية، فوقع الاختيار على موقع «كانيا عربان» (التسمية كردية وتعني حرفياً «عين العرب» بالعربية نسبة إلى عين مياه كانت ترتادها مواشي القبائل العربية وسمّيت بلسان أهل المنطقة الأكراد «كانيا عربان») ليكون مركزاً إدارياً وسوقاً ناشئة. تكونت النواة الأولى لمدينة كوباني حول أحد مراكز الشركة الألمانية التي قامت بتمديد سكة القطار، وسرعان ما اندمجت واستوعبت مخيم النازحين الأرمن، واستعارت اسمها «كوباني» اختصاراً من اسم الشركة (كومباني).

نُسجت قصة استيعاب كوباني لمحيطها الريفي والرعوي الواسع الذي قاربت مساحته أربعة آلاف كيلومتر مربع، فارتبطت مع البلدة سهول واسعة كانت تقطنها في الغالب عشائر كردية، تلك التي كانت تجوب براري شرق الفرات شمال مدينة الرقة، وحتى شرق مدينة حماه.

حدث ذلك التحول الكبير في عمران المنطقة من دون خطة مسبقة لربط هذه الأرياف بمركز حضري، إلا أنه تم إتباع منطقة كوباني لاحقاً بأقرب وأكبر مدينة في شمال سورية وهي حلب التي تقع على بعد 160 كيلومتراً غرباً.

حافظت منطقة كوباني على أهميتها التي تنبثق من جغرافيتها الوسيطة، فهي شرق الفرات ضمن الجزيرة الفراتية، إلا أنها أخرجت من الناحيتين الإدارية والعملية من الجزيرة، وضمت إلى محافظة حلب، وأتبع قسم صغير من ريفها بمحافظة الرقة التي تأسست عام 1960.

نتيجة لهذه الإجراءات تم قطع التواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين أكراد الجزيرة (محافظة الحسكة) وأكراد كوباني الذين كانوا متواصلين سابقاً عبر سهول ويرانشهر ورأس العين، وعبر الطريق التاريخي الذي كان يربط حلب بالموصل. لقد انقطع التواصل الاجتماعي والإداري الذي استمر لمئات السنين قبل تقسيم مناطق كردستان بعد الحرب العالمية الأولى.

لاحقاً أصبح تفتيت المناطق الكردية وتخريبها في شمال وغرب سورية هدفاً وموضوعاً لسياسات الدولة وخططها وللحزب الحاكم في دمشق. ولتثبيت هدف تفتيت مناطق الجزيرة العليا، صادرت الحكومة السورية أراضي الملاكين الكرد في غرب رأس العين، بخاصة أملاك عائلة (إبراهيم باشا الملي)، وذلك تحت شعار الإصلاح الزراعي، كما تم تسهيل مهمة استيطان بعض القبائل العربية البدوية غربها، في ناحية (سلوك) ومنطقة تل أبيض (كري سبي).

وفي وقت لاحق، تفتتت وانكمشت كل المناطق الكردية في شمال وغرب سورية بسبب سياسات الحكومات المتعاقبة التي كانت تتعمد إهمالها وتطويقها، بما فيها كوباني التي سجلت على رغم تلك السياسات قصة نجاح تنموي، وانتعاش اقتصادي.

حافظت منطقة كوباني على خصوصيتها، وكذلك على التجانس والتضامن الاجتماعي بين قبائلها، فاتجه أبناء المنطقة نحو العمل الحر والزراعة بعيداً من الدعم الحكومي. فتمكنت من الحفاظ على التنمية البشرية فيها، وكذلك على قدرتها الفريدة في أن تربط أكراد الجزيرة بالخزان البشري الكردي الموزعين في المناطق الغربية من سورية في مناطق: الباب، تل عرن، ريف شمال حلب، عفرين، جبل الأكراد في اللاذقية، حماه وحمص، فالطبيعة العشائرية للمناطق الكردية في غرب سورية هي من الأصول العشائرية نفسها في كوباني، كعشائر البرازية التي توجد أيضاً في محافظة حماه على سبيل المثال لا الحصر.

تمكنت منطقة كوباني من العيش بشكل شبه مستقل عن الدعم الحكومي، وباكتفاء ذاتي عالي المستوى، فهي مكونة من ريف واسع تبلغ مساحته إدارياً 2730 كيلومتراً مربعاً، تتبعها ناحيتان هما شيوخ وصرين بمجموع قرى ومزارع يتجاوز عددها 400، وعدد السكان 363,000 نسمة، وفق آخر إحصاء رسمي.

إضــافة الــى سيـــادة الرعـــي في سهولها قديماً، انتعشت فيها الزراعة منذ أواسط القرن الماضي، بخاصة المروية (القطن والحبوب). إلى أن حققت كوباني قفزة في الحياة الزراعية عندما نجحت في زراعة أشجار الفستق الحلبي والجوز واللوز، وكذلك الزيتون في السنوات الماضية.

وتوالت فصول نجاح أبنائها عندما اكتسبوا خبرة صناعية عالية، فاشتهروا بصناعة الآلات الزراعية وتعديلها، وبشكل خاص حفارات الآبار العميقة، ومضخات المياه العمودية، ومعدّات تقنية أخرى متعددة، لدرجة أن توزع أبنائها في أصقاع متباعدة من قاراتي آسيا وأفريقيا، وهم يحفرون آبار مياه الشرب، بالآلات نفسها التي صنعوها في مدينة كوباني، ونجحوا في رفع المياه من أعماق تتجاوز الخمسمئة متر.

لاحقاً تحققت في كوباني نهضة عمرانية وصناعية، فتوسعت المدينة، وأُنشئت فيها مصانع الآلات الزراعية والألبان. إضافة إلى وجود معملين للإسمنت، أحدهما بشراكة تركية (غورش)، والآخر شركة عملاقة (لافارج) بأسهم فرنسية، شيد في قرية جلبي، ويتجاوز رأسمالها 680 مليون دولار، ويقدر إنتاجها السنوي بحوالى 3 ملايين طن، بمبيعات تقريبية تبلغ 240 مليون دولار.

بعد الانتفاضة السورية، توجه إلى كوباني وريفها آلاف العائلات، بخاصة العربية منها، التي تعرضت مناطقها للقصف والتدمير، لتشكل حاضنة ومكاناً آمناً للمدنيين.

وعلى ما يبدو أن كوباني استهدفت من جانب «داعش» لهذا السبب أيضاً، إضافة الى خيراتها واقتصادها المتنامي... وكذلك لقرب بوابتها التجارية من الحدود التركية، فكان قرار الغزو الذي سبب خسائر بشرية تجاوزت ألفي شخص، وأخرى اقتصادية كبيرة، تقدر بحوالى 3,7 بليون دولار، وقد ترتفع إلى حوالى 5 بلايين دولار حتى صيف عام 2015.

لقد كانت كوباني تجربة فريدة، تحكي قصة انتعاش وتطور منطقة كردية منسية في وسط وشمال سورية، قابلة للتطور والاتحاد مع مناطق الجزيرة في شرقها، لتشكل أرضية لمنطقة واسعة تنتعش خارج سلطة الحكم في دمشق.

* كاتب وأكاديمي كردي سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة