يتحفظ ناشطون ومهتمون بالشأن السوري العام عن إيلاء اهتمام خاص بقضية مخطوفي دوما الأربعة، سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة ونظام حمادي، وقد يتساءلون: لماذا لا يجري الاهتمام بمعتقلين آخرين، عند النظام وعند داعش وغيرهما؟ زهران علوش، المشتبه به الأول بارتكاب الجريمة، أدلى بدلوه في الموضوع، وتساءل عن سبب ما بدا له اهتماما مبالغا فيه بقضية برزان زيتونة، متجاهلا سميرة ووائل وناظم الذين خطفوا معها، وموجّها إلى وجوب الاعتناء بقضية «نساء المسلمين» المعتقلات عند النظام.
لكن خلافا لهذا التقدير، أرى أن القضية لم تنل ما تستحق من اهتمام عام، وخاصة على المستوى السياسي. ولولا أحباب المخطوفين الأربعة وأصدقائهم، لسقطت في مهاوي النسيان.
وليس من المصادفة العارضة أن أصدقاء سميرة ورزان ووائل وناظم مشتغلون بالشأن العام وقادرون على إبقاء قضيتهم موضع اهتمام نسبي أوسع. كانت المرأتان وكان الرجلان في صلب العمل العام الديمقراطي منذ مطلع هذا القرن، وبخصوص سميرة منذ ثمانينات القرن العشرين. ومعلوم أنها اعتقلت بين1987 و1991 لنشاطها في تنظيم يساري معارض. ومن هنا العنصر الأول في خصوصية هذه القضية: كان الأربعة معارضين معروفين للنظام الأسدي قبل الثورة بسنوات طويلة، وليسوا أشخاصا بدأ تاريخ نضالهم مع الثورة. وللمرأتين والرجلين سجل من العمل العام المثمر، المنضبط برؤية أخلاقية وسياسية متسقة، كبير جدا ولا تشوبه شائبة.
ثانيا، جاء الأربعة إلى «منطقة محررة» لأنهم مطلوبون من النظام، وبأمل أن يستأنفوا عملهم العام في شروط أنسب وأكثر حرية. وكانت عينهم دوماً على الانخراط في البيئة المحلية والبحث عن شركاء من سكانها. وهو ما قاموا به فعلا، ومنذ لحظة وصول أولاهم، رزان، إلى الغوطة في الأسبوع الأخير من نيسان 2013. مفهومهم للعمل العام هو العمل مع الناس، مع عامة الناس، وليس الانشغال الحصري بالسياسات العليا للدول وأشباهها والسائرين في أفلاكها. ورغم أن الأربعة لم يشعروا أنهم قادمون إلى مكان غريب، يحتاجون فيه إلى حماية خاصة، فإن ألفباء الضيافة، كيلا نقول مبادئ الثورة، توجب حماية امرأتين ورجلين، جاءوا إلى المنطقة لأنهم مطلوبون للنظام.
ثالثا، مختطفو الأربعة ليس النظام الأسدي ولا داعش، إنهم قوة محلية في دوما، اسمها «جيش الإسلام»، ولها وزن خارجها في العديد من المناطق السورية، ولها تمثيل من نوع ما في هياكل الائتلاف، وتحسب عادة من قوى الثورة السورية. والجريمة ارتكبها تشكيل يفترض أنه معني أولا وأساسا بمواجهة النظام وبحماية السكان منه، ويستمد شرعيته من هذا الواجب حصرا، لا من أي شيء آخر. وهو يتوقع أشكالا من العون المادي والسياسي والتسهيلات الأخرى باسم الثورة وعلى حسابها.
النظام يعمل على تحطيم الثورة، وتحطيم قضيتنا، ومجتمعنا كله، وهو لم يكف عن قصف دوما والغوطة الشرقية، لذلك لا نستغرب جرائمه. وداعش تشكيل إجرامي لا يخفي عداءه للثورة والناشطين المدنيين وما يمثلون. لكن الفاعل هنا تشكيل عسكري ديني يتوقع منا، ويتوقع آخرون، أن لا ننتقده لأنه يواجه النظام الأسدي المعتدي. كيف يستقيم ذلك؟
كيف يُسكت على جريمة بهذه البشاعة بذريعة مواجهة النظام؟ وهل من يرتكب جريمة كهذه معني جديا بالصراع مع النظام من أجل حياة وحرية السوريين؟ فإن كان هناك من يعتقد أن هذه جيش زهران معني فعلا بقضية الثورة، أو على الأقل أنها مخلص في كفاحه من أجل «تحرير المدن من الطغاة» (على ما زايد ناطق باسم «جيش الإسلام» على اتهام مباشر من كاتب هذه السطور بعد جريمة الخطف بقليل)، فليضغط عليه كي يفرج عن المخطوفين، ولا يستنزف سمعته بممارسات أسدية- داعشية بحق الناشطين العزل، وليقل للخاطفين إن مواجهة المعتدي الأسدي توجب عدم التلهي بخطف الناس وسجنهم وتغييب أية معلومات عنهم.
من جهتنا لا نعتقد أنه يمكن لمن يكون جلادا وسجانا أن يكون محررا، ومن يعوزه البرهان فلينظر إلى تاريخ النظام الأسدي: جلاد الشعب السوري معني بسلطته حصرا، وهو ما قاده إلى حراسة حدود المنطقة التي تحتلها إسرائيل من الأرض السورية من أجل أن تصون إسرائيل أمنه وتحمي بقاءه.
فهل يمكن أن نكون شركاء في قضية واحدة مع من اختطفوا الأربعة؟ جريمتهم لا تنفي الشراكة فقط، بل هي تقول انهم يعتبروننا، بالأحرى، أعداء.
وهنا المصدر الرابع لخصوصية قضية الأربعة ووجوب الاهتمام بها أكثر لا أقل. الأربعة يمثلوننا، يمثلون الثورة السورية في قيمها التحررية، لا كصراع ضيق على السلطة، يمثلون السياسة من تحت مع الناس لا من فوق، يمثلون اتساع الأفق الفكري والسياسي والأخلاقي، لا ضيق الأفق وضيق النفوس، يمثلون العام الوطني في صراعنا والترفع على الرابطة الطائفية، لا الانحباس فيها والنضال من أجلها. وهم لم يُختطفوا ويُغيبوا لأنهم قاموا بما ينتهك قانونا معلوما، بل لأنهم يمثلون نموذجا آخر للتفكير والسياسة والقيم. ومن هذا الباب فإن المثابرة على الاهتمام بقضيتهم وممارسة الضغوط الرمزية والسياسية والقانونية على الخاطفين هو بمثابة دفاع عن النفس، شرعي جدا بقدر ما كان شرعيا دفاع السوريين عن أنفسهم بالسلاح في مواجهة آلة القتل الأسدية.
ليس هناك أي منطق أو مبدأ للعدالة يسوغ لأي كان أن يطالب باهتمام أدنى بمصير المخطوفتين والمخطوفين. المطلوب بالعكس اهتمام عام أكبر بجميع قضايا المخطوفين والمعتقلين والمغيبين، وعدم تركها لأهاليهم وحدهم. والمثال الذي يتعين التطلع إليه هو أن ينال كل المخطوفين والمعتقلين درجة الاهتمام العام التي ينالها أكثرهم حظوة بالاهتمام.
ما نطلبه من أنفسنا ونأمله من غيرنا، كمنظمين لحملة تضامن مع المخطوفين الأربعة وضغط على الجناة، هو الربط المستمر بين قضية مخطوفي دوما الأربعة وبين المخطوفين والمعتقلين عند المجرم الأسدي، وبين المخطوفين والمغيبين عند دعش. وإظهار وحدة المعاناة من المعتدين الثلاثة، ووحدة معنى العمل من أجل حريتهم كلهم، وحرية جميع السوريين وكرامتهم. أليست هذه قضيتنا؟ أليس من أجل الحرية والكرامة تفجرت الثورة؟
٭ كاتب سوري |