رغم كل ما جرى في عالمنا العربي من تفسّخ دول وانعطاب بوصلات سياسية وحر اكات عشوائية تشبه أجسادا بلا رؤوس إلا أن المقاربات السائدة والتي أفقدها التاريخ صلاحيتها تواصل هذيانها بعيدا عن جاذبية الواقع، فالأخطاء في التوصيف والتشخيص أدت بالضرورة إلى خطايا في المعالجات، ونادرة هي الأبحاث التي تستقرئ هذا الواقع وتقشره كالبصلة بحثا عن لبٍ غير موجود، منها كتاب «المنصف وناس» عن ليبيا من الداخل، وهو بحث لا يتخلى عن الانثربولوجيا والعلوم الاجتماعية لصالح خطاب سياسي أعرج، لا يرى من المشهد غير سطحه، وسبق أن صدرت دراسات عن الشخصية العربية ومكوناتها وعن الذات الجريحة لكنها بقيت في نطاق التجريد والتعميم، باستثناء ما كتبه عالم الاجتماع العراقي الراحل د. علي الوردي الذي درس الشخصية العراقية من خلال رصد علمي دقيق لمكوناتها النفسية ونسيجها الاجتماعي .
كتاب «المنصف وناس» عن ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة, ورغم أن هذا الثالث يقترن بليبيا إلا أنه يتخطى حدودها الى الجغرافيا العربية ذات التضاريس السياسية الفجّة والنيئة، وهنا نتذكر على الفور اطروحات ابن خلدون الرائدة عن التمدن ومعوقاته وعن مفهوم الغَلَبَة من خلال سايكولوجيا بدائية .
وباختصار فإن هذا الثالوث يعود إلى مفهوم ما قبل الدولة، سواء تعلّق الأمر بليبيا أو شقيقاتها اللاتي أعادتهن الثورات والانقلابات العسكرية الى ثنائيات داحس والغبراء وثقافة البسوس، فما كان لهذه الدول الهشّة ان تفكك بسرعة، وتتحول الى صراع قبائل لو انها استكملت عناصرها واقانيمها وتمأسس المجتمع بحيث يرسخ تقاليد سياسية تفرق بين مفهومي الدولة ونظام الحكم، لكن النماذج التي عرفناها ورأيناها تتداعى كانت الدولة فيها ونظام الحكم اشبه بدائرتين لهما محيط واحد ومركز واحد ايضا .
والمفارقة هي ان النظم التي تصورت بأن علاقات الدم وتغليب الولاء على الكفاءة تطيل من عمرها دفعت ثمن هذا الوهْم، فأصبح ما تصورت انه شماته ضمانة بقاء مقْتلاً .
ان واقعا يعجّ بكل هذه المتغيرات غير المسبوقة يحتاج الى مقاربات طازجة غير تلك المعلّبة التي فقدت صلاحيتها منذ زمن، لكن مثل هذه الجدية لا تزال نادرة ما دام العور هم الفلاسفة في بلاد العميان !! (الدستور)
|