ينظم المركز العربي للبحوث والدراسات بالقاهرة يوم الثلثاء من كل أسبوع ندوة فكرية تعالج المواضيع المطروحة على الساحة العالمية والإقليمية والمصرية يشترك فيها خبراء المركز الذين يمارسون «العصف الذهني» الذي يحاول حل لغز الشفرات المعقدة للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في عالمنا المعاصر.
وقد دارت ندوة الأسبوع الماضي حول التنظيم الإرهابي «داعش» الذي غير اسمه إلى «الدولة الإسلامية»، وطرحت في المناقشة موضوعات شتى دولية وإقليمية وسياسية وثقافية، ولكن برز في المناقشة سؤال رئيسي:
ما الذي يدفع مجموعات من الشباب الغربيين للهجرة إلى سورية والعراق لكي يحاربوا تحت علم «داعش» بالرغم من أن غالبيتهم ليسوا مسلمين بالديانة حتى ينجذبوا إلى اليوتوبيا الخيالية المتعلقة بالخلافة الإسلامية التي تنشر العدل بين الناس؟
لقد حاولت أن أطبق منهجية التحليل الثقافي محاولاً حل هذا اللغز الثقافي الغريب. وقد ساعدني في ذلك اهتمامي القديم بتحليل ثورات الشباب في العوالم الاشتراكية والرأسمالية وأقطار العالم الثالث، والذي يعود بالتحديد إلى العام 1970 أي إلى أكثر من أربعين عاماً، حين شاركت في بيروت في المؤتمر العالمي الذي عقد في تلك السنة وكان عنوانه «مشكلات الشباب نظرياً وعقائدياً».
ويمكن القول إن نهاية الستينات شهدت ظاهرة فريدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، هي ثورات الشباب التي اندلعت في عديد من البلدان، في ألمانيا وفرنسا وفي الولايات المتحدة الأميركية وفي إيطاليا والمكسيك، وفي بعض البلاد الاشتراكية.
لقد فاجأت هذه الثورات التي بلغ بعضها -مثل ثورة الشباب في فرنسا- حداً من العنف هدد بتقويض النظام القائم. ولم تكن غريبة في الواقع صعوبة تفسير هذه الثورة، فالتراث النظري لعلم الثورة -إن صح التعبير- لم يسبق أن اهتم كثيراً بتحليل دور الشباب على وجه الخصوص في إشعال الثورات الاجتماعية أو السياسية، أو في التصدي لقيادة معارك التغيير الاجتماعي باصطناع الوسائل السلمية، أو باللجوء إلى أساليب الكفاح العنيفة إن لم يجدِ الحوار.
فقد قام الشباب بالثورة التي كادت تطيح بالنظام السياسي الفرنسي في عهد ديغول وهو ما لم يتوقعه أحد، ولذلك قمت ببحث مشكلات الشباب في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية وبلاد العالم الثالث، ووجدت أن بعض الباحثين يفسرونها على أساس أنها تجليات لما أطلقوا عليه «الثورة الثقافية العالمية». وقد حددت سمات هذه الثورة في أربع سمات رئيسية هي كما يلي:
1- أن الأسلوب الذي اتبعه الطلبة الثوريون في كثير من البلاد قد تجاوز قدرات السلطات التقليدية، فكل وسائل القمع لم تجدِ في التعامل معهم. ولعل مرد ذلك إلى أنه كانت لديهم اتجاهات ضد كل أنماط السلطة، التقليدية، والعقلية، والبيروقراطية، والأبوية، وأعدوا أنفسهم يوماً بعد يوم للأساليب المختلفة الكفيلة بالتعامل معها.
2 - ويتضمن أسلوب حركات الشباب أيضاً أسلوباً جديداً في القيادة، فالمفاهيم القديمة عن «الزعيم الأوحد» أو «السلطة الأبوية» لم تعد مقبولة. والنمط الجديد من السياسي الشاب أنه ينظر الى نفسه باعتباره واحداً من كل، وأنه قابل دائماً للتغيير والتبديل، وكذلك ينظر إليه زملاؤه. وإذا تكلم فهو لا يعبر عن وجهة نظره الشخصية كفرد، ولكنه يتحدث باعتباره صوتاً معبراً عن زملائه.
3 - ومن أبرز السمات التي لوحظت، مرونة وكفاءة الثوريين الشباب، فهؤلاء الشباب الذين كانوا يتهمون بالسلبية وعدم الاكتراث أظهروا مقدرة فائقة على العمل والتنظيم.
4 - ومن السمات التي ظهرت أيضاً في حركات الشباب، ظهور نمط جديد من الفرد. وهذا الفرد ليس جديداً تماماً، فقد سبق أن ظهر مثيله في حركات ثورية سابقة، غير أن ما يميز هذا الفرد الجديد حرصه على عدم حصر نفسه في نطاق تخصص ضيق وجامد، وإحساسه بضرورة تكامله مع الحياة الإنسانية في شمولها. غير أن أهم من ذلك كله أن هذا الفرد الجديد أصبح ظهوره ظاهرة جماعية، ولم يعد حادثة فردية كما كان الحال في الماضي.
5 - وتركز هذه الحركات على الطابع الاجتماعي للفرد، ولم تعد مقبولة تلك القيم الأخلاقية الفردية التي كانت تحض الفرد على أن ينشغل بأموره هو فقط. كما أنه ليس فيها مكان لمن يحملون التقديس للقيم القديمة، ولأن عليهم أن يعملوا لمخالفتها وتجاوزها.
ولو ركزنا النظر على هذه السمات سنجدها –ويا للغرابة- تنطبق أكثر ما تنطبق على شباب ثورات «الربيع العربي» التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية.
ومعنى ذلك أن هذه الثورة الثقافية العالمية التي بدأت إرهاصاتها في أواخر الستينات مع الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968 ظلت كامنة تحت السطح حتى ظهرت مرة أخرى ولكن في العالم العربي هذه المرة وليس في أوروبا!
لقد حاولنا في بحثنا القديم تلخيص المشكلة الرئيسية في كل من المجتمعات الاشتراكية حيث برزت إشكالية «البيروقراطية والثورة»، وفي المجتمعات الرأسمالية حيث سادت ظاهرة «التسامح القمعي» برغم سيادة النظم الليبرالية، أما في غالبية بلاد العالم الثالث ومن بينها العالم العربي، فقد سادت ظاهرة «القمع السياسي والاجتماعي والثقافي».
ويمكن القول إن ثورات الشباب في العالم الاشتراكي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة الدول الشيوعية التي كانت تدور في فلكه، أما في المجتمعات الرأسمالية التي تسودها ظاهرة «التسامح القمعي» والتي عرفها الفيلسوف الألماني الشهير هربرت ماركوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» بأنه تحت غطاء الليبرالية بما تتضمنه من حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، هناك خطوط حمر غير مرئية لو تجاوزها الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب في هذه المجتمعات فإنها ستقمع قمعا شديداً، سواء باستخدام القانون كما حصل في «الحقبة المكارثية» في الولايات المتحدة، أو خارج القانون. أما في العالم العربي، فقد ساهمت ثورات الشباب في اقتلاع القمع السياسي والاجتماعي والثقافي من جذوره في «الربيع العربي».
ولكن بالعودة مرة أخرى إلى الأسباب التي دفعت مجموعات من الشباب الغربيين للهجرة إلى «داعش» والقتال في صفوفه، يمكن باستخدام منهجية «التحليل الثقافي» رد ذلك إلى عدة أسباب رئيسية، وفي مقدمها سقوط الأيديولوجيات السياسية التي كانت تجتذب الشباب لتبنيها والنضال تحت أعلامها، مثل الماركسية الاشتراكية، إضافة إلى انهيار الليبرالية ذاتها تحت ضربات العولمة الاقتصادية المتوحشة.
وبالتالي افتقد الشباب الغربيون هذه الأيديولوجيات الجامعة التي كانت تمنحهم اليقين بصواب اختياراتهم السياسية، بل إنها كانت تعطيهم معنى لحياتهم في الوقت نفسه.
حدثت هذه الانهيارات الإيديولوجية بحكم سقوط «السرديات الكبرى» لو استخدمنا لغة «ما بعد الحداثة»، أو الأنساق الفكرية المتماسكة التي كانت تعطي العالم معنى ودلالة. غير أن هناك أسباباً أخرى أهمها بروز التفاوت الطبقي الرهيب في المجتمعات الغربية، بعدما سيطرت طبقة قليلة العدد على الثروة والسلطة معاً. (راجع في هذه الظاهرة كتاب رأس المال لتوماس بيكيتي الذي أحدث دوياً عالمياً).
ولا شك في أن بين الأسباب المهمة شيوع ظاهرة البطالة بين الشباب، لأن التطور التكنولوجي الفائق السرعة قد يعدم فرصهم في العمل نهائياً، كما تنبأ بذلك الاقتصادي الأميركي جيرمي ريفكين في كتابه الشهير «نهاية العمل».
ويبقى أخيراً غياب المشاريع الحضارية الكبرى في المجتمعات الغربية والتي كانت تعطي الأمل للشباب في تحقيق ذواتهم على المستوى الفردي والاجتماعي، ما دفع بهم إلى التمرد على النظام الرأسمالي في تظاهرات «وول ستريت» الشهيرة.
هل تكون كل هذه الأسباب مقنعة في تفسير لغز هجرة الشباب الغربيين إلى «داعش»، وكأنه انتقال من جحيم المجتمع الاستهلاكي الظالم إلى يوتوبيا «الخلافة» الإسلامية العادلة؟
سؤال يحتاج إلى مناقشات متعمقة!
* كاتب مصري |