كانت الشبهات حامت حول وجود تنسيق مسبق، ولو عبر طرف ثالث، بين نظام الأسد والقيادة الدولية للتحالف ضد داعش بمناسبة استمرار قوات الأول بقصفها مدينة حلب وريفها، تزامناً مع قصف قوات التحالف تنظيم داعش في ريف حلب، وكوباني تحديداً. من الناحية التقنية، يتعذر اقتسام الأجواء في منطقة محددة من دون وجود تنسيق بين الطرفين، حتى إذا اقتصر على إبلاغ النظام بمواعيد الطلعات الجوية لطيران التحالف، وحتى إذا أتى الإبلاغ على هيئة إنذار بعدم تشغيل راداراته. مع قصف مدينة الرقة من قبل طيران النظام، بما لا يقل عن عشر غارات يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، دخل الأمر حيز التأكيد لأن سماء الرقة أصبحت مشتركة بين طيراني الطرفين، ولم يعد الأمر يتوقف عند اقتسام الأجواء وعلاقة «حسن جوار» بينهما.
في سياق متصل، كان وزير الدفاع الأميركي يعلن استقالته، احتجاجاً على عدم وجود استراتيجية أميركية في الحرب على الإرهاب، ومن المفهوم على نطاق واسع أنه يقصد غياب إستراتيجية للحلف الدولي في سورية. أيضاً كان نائب الرئيس الأميركي يعود خائباً من زيارته إلى تركيا، متبوعاً بتصريحات لرئيسها بلغت حد وصف المطالب الأميركية بالوقاحة. ذلك في الوقت الذي تخيم فيه الخلافات على اجتماعات هيئة ائتلاف المعارضة، المنعقدة في إسطنبول، كتعبير متكرر عن الخلافات الإقليمية وعن الإهمال الدولي للهيئة التي عُدت يوماً «الممثل الشرعي للشعب السوري». الائتلاف تُرك ليتفسخ تحت وطأة الخلافات الداخلية، وخلافات الجهات الإقليمية الداعمة، بعد أن نُحّيَ تماماً عن أجواء التحالف الدولي، ولا دلالة أبلغ من إغلاق أبواب واشنطن أمامه وعدم الاستماع إلى مناشدات قادته.
في الجانب العسكري، لم تبقَ هناك تشكيلات عسكرية مقبولة نسبياً من الإدارة الأميركية. التنظيم الأكبر بينها أطاحته جبهة النصرة عن مواقعه في الشمال، بينما يجاهد تنظيمان صغيران في حلب كي لا يلقيا المصير ذاته. قوات «المعارضة المعتدلة» التي تشرف الإدارة الأميركية مباشرة على تدريبها لا تزال في المهد، ولا يتوقع أن تباشر مهماتها في الأراضي السورية قبل أشهر قد تطول، وهي أصلاً قوات صغيرة من حيث العدد، وليس مرجحاً أن تحصل على أسلحة نوعية تعوّض نقصها العددي، بل ربما تنتفي الحاجة لها إذا تمكنت قوات التحالف من توجيه ضربات مؤثرة لداعش وأشباهه.
بجمع ما يحدث على الصعيدين السياسي والعسكري، نحن أمام معطيات متكاملة لا يمكن تجاهلها، معطيات ترافقت تماماً مع إنشاء التحالف الدولي وتصب جميعاً في خانة إنهاء المعارضة السورية الحالية بشقيها السياسي والعسكري. الإدارة الأميركية لم تصمت فقط على استهداف طيران النظام نحو مئتي مدني في الرقة، وإنما صمتت قبل ذلك على محاولات روسيا إنهاء مسار جنيف بمسار سياسي تشرف عليه ويلبي ما كان مرفوضاً من مطالب النظام في جنيف2، وصمتت أيضاً عن خطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا التي لا تعدو كونها تطويراً لخطة إيرانية سبق رفضها.
لكنها، على أية حال، ليست مؤامرة أن يحدث ذلك مع قيام الحلف الدولي ضد داعش. الإدارة الأميركية كانت واضحة وصارمة في أن الحلف لن يكون موجهاً ضد نظام الأسد، أي لن يكون ضد النفوذ الإيراني في وقت تسعى فيه إلى عقد اتفاق تاريخي مع إيران. والإدارة كانت واضحة، حتى قبل إنشاء التحالف، في عدم ثقتها بالمعارضة السورية أو قدرتها على إسقاط نظام الأسد، مثلما كانت حازمة في أن الهدف النهائي يتعين في حل سياسي تفاوضي بين النظام والمعارضة، حل لا يستثني الأسد بالضرورة. أما برنامج تدريب «المعارضة المعتدلة» فشديد الوضوح لجهة تخصيصه لمحاربة داعش، ولا يمكن زعم بأن الحديث يدور عن معارضة وطنية، بمعنى أنها تمتلك مشروعاً سياسياً، طالما يجري انتقاء المنتسبين من قبل الاستخبارات الأميركية وبصفتهم أفراداً فحسب. في الواقع، تقترب آلية تشكيل قوات «المعارضة المعتدلة» من مفهوم ميليشيات المرتزقة أكثر من صلتها بأي مناخ سياسي داخلي، حالي أو قيد التكون.
وأن لا تُواجه النوايا الأميركية بمعارضة إقليمية فهذا دليل على وجود تفاهمات مسبقة بين الجهات المنضوية في الحلف الدولي، بما فيها جهات سحبت دعمها السابق لائتلاف المعارضة، أو تمويلها لفصائل عسكرية على الأرض كانت تُسوّق بوصفها معتدلةً إلى وقت قريب، إذ لا يعقل أن تكون التوجهات الأميركية التي تتضح أكثر فأكثر بمثابة خدعة للحلفاء. على العكس، كانت التحليلات العربية المفرطة في التفاؤل، التي رأت في التحالف الدولي سبيلاً إلى إسقاط الأسد، هي ما مارس الخداع على الرأي العام العربي لتمرير فكرة التحالف بكل نواقصه وعيوبه، لأن أبعد ما وصلت إليه التعهدات الأميركية هو التزام غائم بعدم استفادة النظام من عمليات الحلف ضد داعش، وهو التزام لا قيمة له منذ البداية لأنه غير مبني على آليات تنفيذية.
ليست المسألة في أن الحلف الدولي غير موجه ضد النفوذ الإيراني فحسب، فما ينبغي قوله بصراحة هو أن الحلف دشن مرحلة إسقاط المعارضة الحالية، بكافة رموزها وأشكالها المدعومة من أعضاء التحالف أنفسهم. واحد من الأثمان المدفوعة لإنشاء التحالف هو تخلي اللاعبين الإقليميين عن سياساتهم المنفردة، والمتعارضة أحياناً، في الشأن السوري، لصالح رؤية أميركية تقتضي تصفية المرحلة السابقة على عودة الانخراط المباشر في شؤون المنطقة. لو لم يكن الأمر كذلك لشهدنا تضعضعاً سريعاً في الحلف، أو لشهدنا وضعاً مغايراً لجهة إعادة تأهيل المعارضة، وحتى لجهة توفير حوافز تشجع ما تبقى من فصائل معتدلة على الأرض.
وعندما تعكس المعارضة ذاتها التوجهات الخارجية، أكثر مما تعكس وجوداً فاعلاً ومؤثراً على الأرض، فهذا بلا شك يسهّل إسقاطها على الصعيدين المعنوي والمادي. ففي الثاني منهما يكفي أن تحجب الدول المانحة دعمها المادي والعسكري لتنهار الأطر القائمة عليه، أما في الجانب المعنوي فيكفي سحب الغطاء الدولي الذي تكفل بتعويم الائتلاف وتركه يتآكل بفعل دينامياته الخاصة. من السيء طبعاً أن تظهر المعارضة منتهية الصلاحية خارجياً، لكن الأسوأ على الإطلاق أن صلاحيتها المحلية انتهت قبل ذلك. |