يعرف أصدقائي الأكراد أنني لم أكن موافقاً على الاعتراف المسبق بالحكم الذاتي لمنطقة الجزيرة، التي تضم محافظتي الحسكة والقامشلي، على الرغم من أنني كنت من أكثر المدافعين عن حقوقهم القومية منذ عقود طويلة، ليس اعتراضاً على المبدأ، وإنما خوفاً من أن يفهم بعض قصار النظر من القوميين المتطرفين من ذلك، خصوصاً في سياق الأزمة الوطنية العميقة، أنه يعني اعتبار المنطقة ملكاً عقارياً صافياً لقومية واحدة من دون غيرها، وأن يشجع بعضهم على بدء حرب تطهير عرقية، لإخراج العرب والآشوريين، وغيرهم من القوميات الأخرى منها. ولذلك، اقترحت صيغة اللامركزية الإدارية الواسعة في الوثيقة، التي وقعت بين المجلس الوطني السوري والمجلس الوطني الكردي، وهي الصيغة التي تضمن لجميع السكان، أكراداً وعرباً، حقوقهم المتساوية في أرض وطنهم.
هذا ما تم الاتفاق عليه بالفعل، بيد أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، "بي ي دي"، أعلن الهيئة الإدارية الذاتية، ليقطع الطريق على أي تفاهم بين السكان والمكونات القومية، ويفرض سيطرته الأحادية على المنطقة، وهذا ما كنت قد انتقدته، في تلك الأثناء، خوفاً من العواقب نفسها. وها هي النتيجة تظهر كما توقعتها تماما. فلا يكاد يمر شهر من دون أن ترتكب الذراع المسلحة للحزب مجزرة بحق السكان المدنيين، كان آخرها ما حصل فجر الأحد، 9/14، حيث اقتحمت مجموعة من وحدات كردية، حسب مصادر محلية متواترة، قرى تل خليل والوقاعة في الريف الجنوبي (18كم جنوب القامشلي وشمال بلدة تل حميس)، وأعدمت تسعةً من الأهالي المدنيين، واقتحمت قرية الحاجية، وأعدمت فيها النساء والأطفال والشيوخ، حتى وصل عدد الشهداء إلى 33، كلهم مدنيون، ومن أهالي القرية.
وليست هذه المرة الأولى التي ترتكب فيها وحدات كردية تابعة لحزب "بي ي دي" مجزرة بحق السكان المدنيين، بذريعة الحرب ضد داعش، فقد سبقتها مجازر عديدة، منها مجزرة الحاجية وتل خليل ومجزرة تل براك، وقد سقط فيها أكثر من 60 شهيداً، ومجازر ريف راس العين (راح ضحيتها عشرات الشهداء، بالإضافة إلى ما يتناقل من أخبار عن عمليات تهجير قسري، تتم في عموم المناطق والبلدات في ريف الحسكة، ومعظمها على أسس ولغايات عرقية).
تزداد المخاطر من سلوك بعض المتطرفين مثل هذا السبيل، مستغلين مناخ التحالف الدولي في الحرب ضد داعش، حيث يتركّز الاهتمام السوري والدولي على قضية الإرهاب، في الدرجة الأولى.
ومهما كان أمر هذه الأخبار، أهيب بأخوتنا الأكراد وبالمجلس الوطني الكردي، وكل الأكراد السوريين الوطنيين، أن يقفوا لهذه التيارات الانقسامية بالمرصاد، وأن يحبطوا أية مخططات لزرع بذور فتنة وحرب كردية عربية في منطقةٍ، تحتاج، أكثر من كل مناطق سورية، إلى قيم التعايش والتفاهم بين القوميات والمذاهب المختلفة، التي تشكل النسيج الحي والمثري لسورية وعنواناً لرسالتها الديمقراطية.
وعلى الرغم من التعبئة القومية الكبيرة، التي يتعرض لها مواطنونا من الطرفين، فإني على ثقة بأن الأغلبية الساحقة من كرد سورية، ومثقفيها وكتابها، يدركون أن القتال، الذي فرضه النظام على الشعب ليس الطريق لحل أية مشكلة أو خلاف داخل الشعب نفسه، وأن لا مخرج للكرد من المعاناة، التي يقاسونها، وكانوا قد قاسوها في عقود طويلة من قبل، في مواجهة النظام الإجرامي وداعش في الوقت نفسه، إلا بالتعاون بين جميع أبناء الشعب السوري، لتحرير سورية من الطغيان وإعلان عهد المواطنة والمساواة للجميع، والاعتراف بحقوق الجماعات القومية، من دون تمييز، وضد أية نزعة عنصرية، أيا كان شكلها، ومن أية جهة جاءت.
برهان غليون مفكر سوري، مواليد 1945، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، كان أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة".
|