لا يتفهّم السوريون سرعة مبادرة إدارة أوباما في العراق وتلكؤها في سورية. استراتيجية مواجهة «داعش» التي أعلنها أوباما عشية الذكرى السنوية لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) تصب في المنحى ذاته، عمل سريع وواضح في العراق، أفكار بلا التزامات محددة في سورية مع مهلة زمنية يُرجح أن تتجاوز ما تبقى من ولايته. على عكس السوريين، الإدارة الأميركية ليست متلهفة إلى الحسم بأي ثمن، وكيفما كان، ولن تسمح لحربها على «داعش» بتأثير جذري على إستراتيجيتها المعلنة إزاء الملف السوري، مثلما لم تسمح قبل سنة لمجزرة الكيماوي باستجرارها إلى عمل عسكري.
لذا لم يكن سقف توقعات المعارضة السورية مرتفعاً في انتظار خطاب أوباما، بل غلب على بيئاتها نوع من التوجس وانعدام الثقة، وحتى التشكيك المسبق في الإستراتيجية المنتظرة بعد رواج تسريبات صحافية عن تعاون استخباراتي مع النظام بوساطة ألمانية. ولا بد من التنويه بالحدّين اللذين يحكمان رؤية المعارضة، الأعلى منهما، الذي يعبر عن التمنيات، هو توجيه ضربات لنظام الأسد باعتباره متسبباً في تقوية «داعش» ومصدراً من مصادر الإرهاب، الأمر الذي يتضح عدم وجود أفق له حالياً. الحد الأدنى هو عدم تمكين قوات الأسد من الاستفادة من الضربات الجوية على «داعش»، لأن التدخل الأميركي حينها سيخدم النظام، بعد أداء «داعش» لدور الوسيط باستيلائها على المناطق المحررة.
باستعراض كرونولوجي قريب، وفق منطق المعارضة السورية، أهدرت الإدارة الأميركية فرصة إطاحة الأسد قبل سنتين، عندما كانت قوات المعارضة تتقدم إلى مركز دمشق، فمنعت حينئذ الدعم عنها، وتسببت في استعادة النظام أنفاسه واستلام زمام المبادرة، وتسببت أيضاً في قوة الجماعات المتطرفة ونموها على حساب عناصر الجماعات المعتدلة. وكما نرى، هذا التسلسل منطقي جداً، ويُعدّ بمثابة خطيئة كبرى للإدارة ينبغي أن تقرّ بها، بخاصة وهي تبدو اليوم كأنها تحاول استدراك ما فاتها قبل سنتين، من خلال الحديث عن دعم المعارضة المعتدلة. إلا أن ما يُعدّ خطيئة بموجب التحليل السابق، وأيضاً مسؤولين سابقين في إدارة أوباما، ليس كذلك من وجهة نظر الإدارة. فهي لم تعلن يوماً عزمها على إسقاط النظام، ولم تتبنَّ الخيار العسكري، بل طالما أصرت على الخيار السياسي كحل وحيد.
في المقابل، تدرك الإدارة مقدار الضغط الذي بات يشكله وجود «داعش» على النظام، ولا تريد تقديم هدية مجانية له بتخليصه منه، ولهذا لا تريده شريكاً في حربها على الإرهاب. ميدانياً، لا يوجد عاقل يعتقد بعدم قدرة سلاح الجو الأميركي على تدمير مقدرات «داعش» السورية في أيام. الحديث عن سنوات يعني تلازم مساري الجو والبر من اجل إعطاء وقت كافٍ لتأهيل مجموعات معتدلة، لا لتحارب «داعش» فحسب وإنما لتتمكن من الإمساك بمناطق سيطرته الحالية أيضاً. تحقُّق هذا الخيار يعني استعادة المعارضة ما كان لها قبل «داعش»، وعدم إحراز تقدم في صراعها الأساسي مع النظام، وهي خدمة أميركية لا تعوِّض نظرياً سوى الإهمال السابق الذي تسبب ببروز «داعش»، إلا أن ذلك يعني عملياً انخراط الإدارة الأميركية لأول مرة في الشأن الميداني، ما يرتب عليها التزامات تعدُّ سابقة في الملف السوري.
لا هدية مجانية تقدمها الإدارة الأميركية للمعارضة، من يتوقع غير ذلك! فالتقدم الأميركي مشروط بالتزام محلي وإقليمي صارم بدعم توجهات الإدارة في الملف السوري ككل، توجهات تحاذر تكرار الفشل في ملفات سابقة، أولها العراق وآخرها ليبيا. ببساطة ووضوح، للأميركيين إرث غير سار مع شعار «إسقاط النظام»، وهم أول من اختبروه في عراق صدام، ولا ينوون تكرار خيباتهم معه. لذا لا تنظر الإدارة إلى خيار دعم المعارضة المعتدلة سوى بصفته مدخلاً إلى التسوية السياسية، وإذا كان من خدمة كبرى قدمها «داعش» للنظام فهي تكفّله بإقناع العديد من القوى الإقليمية بالعدول عن فكرة إسقاطه.
في خــطابه، أشار أوباما إلى استمرار الجهود الديبلوماسية، وهي إشارة موجهة إلى حلفاء النظام «المستبعدين من التــحالف الدولي ضد «داعش». ولئن كانت الأنظار متجهة إلى برنامج تأهيل المعارضة السورية فالإشارة السابقة تتطلب من حلفاء النظام العمل، في المهلة ذاتها، لتأهيل النظام للقبول بمبدأ الحل السياسي. القول إن الأسد فقد شرعيته تمـــاماً يعني، كما عنى سابقاً، إبقاء النظام من دون عائلة الأسد ورموزها المتورطة بالدماء. رأى العالم، من أصدقاء النظام وخصومه، عواقب الفراغ والفوضى، وأثبت الجميع عجزهم عن معالجتهما، بل توسل الطرفان التدخل الأميركي، وهو إذ أتى لن يكون إلا ضمن التصور الأميركي للحل.
بخلاف ما تشيعه التحليلات الناقدة لإدارة أوباما، ليست هناك سبل سهلة أمام الأخيرة، فهي تدرك أن الاستعجال في القضاء على «داعش» ينقذ الخصوم من ورطتهم، ومن ثم لا تريد نصراً خاطفاً يُستنفد بسرعة على نحو ما جرى في العراق أيام إدارة بوش. «تجزئة» تنظيم «داعش»، ومعالجة خطره العراقي أولاً، تدللان على نضوج التسوية العراقية واستعداد إيران لها، على عكس التصلب الذي تبديه في الملف السوري. أيضاً، في ما عدا معرفتها الأفضل بالتفاصيل العراقية واختبارها السابق للصحوات العشائرية، ثمة مسؤولية أدبية للإدارة بوصفها قوة احتلال سابقة، وهي المسؤولية التي تحاشت الوقوع فيها عندما أقلعت عن توجيه ضربة عسكرية للنظام.
لا تقدّم الإستراتيجية الأميركية بشرى طيبة للنظام أو معارضيه، أو حتى لعموم السوريين، لأن تأجيل الحسم يعني استنزاف الجميع لتطويعهم لمقتضيات الحل. من يشاء مخالفة التصور الأميركي عليه إثبات جدارته في الميدان، رغماً عن الإدارة الأميركية أيضاً، وهذا ما لم تقدر عليه المعارضة وحلفاؤها أو النظام وحلفاؤه. الكلفة المتوقعة من انتظار الحل الأميركي باهظة دماً ودماراً، وتبرهن على أن كلفة عدم إسقاط النظام ليست أقل من كلفة إسقاطه، لكنها قد لا تكون أعلى من كلفة إهمال سورية على النحو الذي حدث منذ سنة حتى الآن. |