الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ١١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة المدن الالكترونية
البحث عن فضيحة "داعش" - سامر فرنجية
ظهرت علياء المهدي عارية من جديد وهي جالسة على علم "داعش"، وهذا قبل أن يحرق بعض الشبّان في ساحة ساسين الراية ذاتها ليعبّروا عن سخطهم تجاه ممارسات التنظيم الجهادي. وقد يكون هؤلاء الشبّان الغاضبون، ومعهم علياء المهدي، آخر الملبّين لدعوة وزير الخارجية الاميركي إلى تشكيل "أوسع تحالف ممكن بين الأمم" للرد على "داعش"، وهو حلف بات يضمّ الجميع على رغم خلافاتهم وصراعاتهم. فقد سبقت الدنمارك علياء المهدي وشبّان ساحة ساسين إلى هذا التحالف، وقررت إرسال أسلحة إلى "البشمركة"، بينما إكتفت النروج بإرسال المساعدات الإنسانية لضحايا "داعش". أمّا وزير الخارجية السعودي، فاجتمع بمساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية، لتأكيد عضوية بلادهما في التحالف الجديد إلى جانب بطاركة الشرق الذين لم تنسِهم مأساة مسيحيي العراق كارثة عدم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. ورفضت مواقع التواصل الإجتماعي استثناءها من هذا الإجماع، فشاركت فيه من خلال حجبها لمواقع "داعش" الإفتراضية. أمّا النظام السوري، فأبدى رغبته بالإنضمام وقدّم أراضيه كهدف محتمل لعدوان دولي. حتى تنظيم "القاعدة"، وهو الضحية الأولى لصعود "داعش"، بات مرشّحا للإنضمام، خصوصاً بعدما برز طابعه "العقلاني" بالمقارنة مع جنون "الجيل الثالث" من الجهاديين.

أصبحت "داعش"، في سرعة قصوى، المحرّك الأول للسياسة في المشرق العربي وتحوّلت إلى نقطة التقاء وارتكاز لشتّى الخطابات عن المنطقة. فمن دعاة التحديث، إلى منظّري المسيحية المشرقية، وصولاً إلى محور الممانعة ومروراً بكل علماني في العالم، بات هناك إجماع حول مركزية "داعش"، وهي مركزية أعادت تركيب الخلافات الجوهرية السابقة وحوّلتها إلى مجرّد اختلافات في التكتيك حول كيفية مواجهة هذا "الوحش". حتى فلسطين ومأساة غزة لم تستطيعا ضعضعة هذه المركزية، حيث عطّل صعود البغدادي وأصحابه بوصلة المنطقة.

صعود "داعش" الأيديولوجي وتصدّره لأولويّات الجميع، ليس مجرّد ترجمة خطابية لصعوده المادي والعسكري فحسب. فالإجماع الحالي، الخارق للإصطفافات الماضية والعابر للدول والطبقات والثقافات، يدلّ على أنّ هناك أكثر من مجرّد رفض لوحشية "داعش"، وهي وحشية هائلة، لكنّها ليست إستثنائية. فتحالف يضمّ علياء المهدي وبطاركة الشرق والظواهري إشارة إلى أنّ "داعش" خرقت فرضية ما، مشتركة، لدى الجميع وأثارت "فضيحة" يجب إسكاتها مهما كان الثمن. فالسؤال المهم ليس عن إجرام "داعش" وسبب وحشيتها وتاريخ صعودها، وهي أسئلة يكمن الجواب عليها في "داعش" ذاتها، بل هو عن سبب تحويل هذا الإجرام إلى فضيحة تأسيسية، واستثناء عمليات قتل أخرى من هذا التوصيف، وإن فاقت إجرام "داعش".

يظهر الطابع الإنتهاكي أو الفضائحي لـ"داعش" في الالتباس العام الذي أحاط بتعريف هذه الظاهرة. فتتقلّب "داعش" بين صورة "الشرّ" المطلق وبين فكرة الحتمية التاريخية التي ترى أنّ "داعش موجودة في كل فرد منا". فمن جهة، يُلخّص التنظيم بصُور عن شرّ لا حدود له، من صلب وذبح وحرق وسبي، يختلط فيه الواقع بالخيال ولا يفسّره إلّا الشرّ ذاته. ومن جهة أخرى، يظهر التنظيم الجهادي كخلاصة لسيرورات تاريخية تجعله الحقيقة المخفية للمجتمعات العربية، بالإضافة إلى كونها نتيجة خلطة "هرمون أوكسيتوسين" مع "هرمون تِستوستِرون"، كما فسر إيان روبرتسون (موقع الجمهورية – 26/08/2014).

ويعود هذا الالتباس جزئيا إلى كون "داعش" صورة أكثر مما هي خطاب. فبقيت الصفة الأساسية للتنظيم بصريّته، وهي صفة تكسر مع عادات التنظيمات الجهادية. فكما أشار حازم الأمين في جريدة "الحياة": "جعل الصورة جزءاً من نشاط دموي وإجرامي أمر مستدخل على ثقافة السلفية الجهادية" (24/08/2014). وهذا الطابع البصري، المركّب والمستوحى من تاريخ طويل لتصوير الإسلام وتخيّله وأبلسته، عزّز اعتبار هذا التنظيم غير قادر على الكلام ومجرّد شرّ أو نتيجة غير واعية لمسار تاريخي. وقد تكون إستعارة وسام سعاده لسؤال الفيلسوفة غياثري سبيفاك "هل يمكن للتابع ان يتكلّم" في مكانها، عندما طرح السؤال المعضلة: "هل يمكن للعنصر الجهادي أن يتكلّم؟"، وبالذات "هل يمكن للداعشي العنصر لا الأمير أن يتكلّم؟.. أي أن يتكلّم بغير ما نضعه على لسانه من كلامنا، أو بالأحرى مما نعتقد انه .. كلامنا؟" (جريدة المستقبل – 2/07/2014).

لن نجد سرّ قدرة "داعش" الإنتهاكية، وبالتالي "الفضيحة الخرساء" التي يجب إسكاتها في خطاب "الداعشي العنصر" أو أفعاله فحسب. ففعل القتل الوحشي، مثلاً، الذي ميزّ عمل هذا التنظيم الإرهابي والذي أصاب العالم بصدمة، لا يختلف كثيراً عن ممارسات النظام السوري الموثّقة والمصوّرة، بالإضافة إلى كونه يستكمل عنفاً عراقياً بدأه أبو مصعب الزرقاوي قبله. أمّا انتهاك "داعش" للحدود السياسية، أو حتى لفكرة الحدود مع انتقاله من "داعش" إلى "دا"، فهذا أيضا ليس بجديد في منطقة لم تقبل تقسيمها الكولونيالي أو حدودها "المصطنعة"، واستمرّت تبحث عن انصهار بذرائع مختلفة. وما تهجير الأقليّات المسيحية، رغم شناعة هذا الفعل، سوى استكمال وتبنٍّ لسيرورة تهجير بدأت منذ فترة طويلة وتسارعت منذ احتلال العراق. هذا كله ليس للقول أنّه من غير الضروري مساندة "أوسع تحالف ممكن بين الأمم" في وجه حالة خلط "هرمون أوكسيتوسين" مع "هرمون تِستوستِرون" هذه، أو للتخفيف من فظاعة الحالة الداعشية وتطبيعها، بل لطرح سؤال بسيط: لماذا "داعش" وليس بشار؟ ما الذي أثاره هذا التنظيم ولم يثِره القتل اليومي للنظام السوري؟ وما هي الفرضية أو الحساسية التي انتهكتها "داعش" ولم يمسّ بها بشار رغم قتله عشرات الآلاف وذبحهم وتهجيرهم؟

من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة أو تحديد الحساسية المشتركة التي انتهكتها "داعش"، غيرّ أنّ بحثاً كهذا قد يكون أكثر نفعة من سهولة اتهام التنظيم. وقد يكون من الممكن البدء باستخلاص بعض جوانب فضيحة "داعش" من خلال البحث في "شكل" الإنتهاكات وليس مضمونها، لمحاولة فهم الحساسية المنتهكة. فانتهاكات تنظيم البغدادي، كانتهاكها لحرمة الجسد في استعماله للذبح أو لحرمة العائلة في سبي النساء والأطفال، انتهاكات علنية وقائمة على فرضية وجود "فاعل" من ورائها. فليس هناك من تهجير أو قتل أو تعصّب فحسب، بل هناك مُهجِّر وقاتل ومُتعصِّب. أي، بكلام آخر، هناك فاعل، يُحاول الجميع القضاء عليه، أكان عسكرياً أم خطابياً، من خلال إرجاعه إلى طبيعته كشرّ غير عقلاني أو كنتيجة صامتة لسيرورة تاريخية.

وما يزيد من فضائحية هذه الظاهرة أنّ الفاعل، رغم مظاهره، يتمتّع بعقلانية أداتية تجعله جزءاً من الحاضر لن تطرده تاريخانية منتقديه. ففي عملها اليومي، أظهرت "داعش" بوادر عقلانية أداتية في خوضها للمعارك وإدارة مناطقها واستعمالها لأدوات الحكم ومحاولة فرضها لهيمنة تكسر بعض الشيء مع الصورة المبتذلة لهذا التنظيم عند أرباب "أوسع تحالف ممكن بين الأمم". حتى القتل وتصويره، باتا جزءاً من عملية الحكم، وليسا مجرّد تعبير عن همجية لا حدود لها (والقتل لا يتناقض مع الحداثة كما تشير محاولات التحديث القسري في القرن العشرين). فمن هذا المنظار، إستولت "داعش" على الشق الأداتي للحداثة، وفصلته عن شقه القيميّ الذي يتمثّل في الثورات العربية وفشلها. فضيحة "داعش" أنّها قبلت بفكرة أنّنا كيانات تاريخية قابلة للتحويل تحت تأثير الفعل المؤسستي، وتبنّت تحويلنا. وفهمت، قبل معارضيها، أنّ للحداثة جانباً أداتياً يتناقض غالباً وقيمها، فتركت لهم القيم وانكبّت على الأداة.

قد لا تصلح هذه المحاولة لفهم سرّ "داعش". غير أنّ الافتراض بأن معارضة "داعش" كافية بذاتها، ولا تحتاج إلى فهم ظاهرة التنظيم أكثر من التنظيم ذاته، هو افتراض قد لا يصلح أيضاً. حل "داعش" في صواريخ الناتو، لكن الهواجس التي حرّكها التنظيم باقية معنا، وكذلك خلطة "هرمون أوكسيتوسين" مع "هرمون تِستوستِرون". 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة