فجأة وعلى غير انتظار يواجَه العالم بظهور تنظيم «داعش» على المسرح الإقليمي العربي متجاوزاً فظائع الحرب الأهلية التي دارت في سورية، والتي تكشف عن غباء النظام السوري وغباء قادته في القيام بالإصلاحات الديموقراطية الحقيقية من ناحية، وفوضى الثورة الشعبية التي قامت ضد النظام، وسرعان ما فرقت صفوفها الأطماع الشخصية والتدخلات العربية والدولية.
في خضم هذه الأحداث الكبرى انبثق تنظيم «داعش»، وسرعان ما تمدد في مساحات شاسعة من الأراضي السورية، واحتل أقاليم عراقية كاملة بغير مقاومة تذكر. وفجأة أعلن التنظيم أنه استعاد حلم الخلافة الإسلامية المفقود وأعلن أن أبو بكر البغدادي هو «الخليفة» الذي تنبغي طاعته وظهر السيف لكي يقطع أعناق «الكفار» والمعارضين، كما فرضت الجزية على المسيحيين وأكثر من ذلك تم إجبار أعداد من غير المسلمين على الدخول في الإسلام.
المشهد كله كان أشبه بفيلم تاريخي يعيد إنتاج مشاهد القرون الوسطى بما سادها من ظواهر بربرية وغزوات عسكرية لبلاد متعددة وبطش شديد بشعوبها.
غير أنه بعيداً عن مشاهد «داعش» الفولكلورية علينا أن نتساءل عن أسباب ظهور «داعش» ونحن الآن نحيا في القرن الحادي والعشرين، حيث يسير التطور الحضاري للانتقال من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة، وبعد أن سادت قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس ذلك فقط ولكن بعد أن أصبح الشعار لا ديموقراطية بغير عدالة اجتماعية.
هذا على المستوى العالمي، أما على المستوى الإقليمي فقد قامت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وسقطت نظم سلطوية راسخة، وهناك محاولات لتشييد نظم سياسية بديلة تتسم بالديموقراطية الحقيقية وسط إحباطات شعبية شتى نتيجة فشل النخب السياسية الديموقراطية بعد ثورات الربيع العربي والتي تجعلها تؤسس لنظم سياسية جديدة تلبي احتياجات الشعوب المادية والمعنوية.
شعب تونس أول دولة قامت فيها الثورة ما زال يصارع حتى لا تتحول تونس إلى دولة دينية بقيادة حزب «النهضة». ومصر أسقطت حكم «الإخوان المسلمين» بعد عام واحد، بعدما ظهرت الملامح الحقيقية لمشروع هدم الدولة المدنية لتأسيس دولة دينية، والسعي لاسترداد الخلافة الإسلامية. ونشأ نظام سياسي جديد لم تتحدد ملامحه بعد.
أما ليبيا فقد سقطت الدولة فيها سقوطاً كاملاً، وأصبحت الميليشيات العسكرية بتوجهاتها السياسية المختلفة هي المتحكمة في الموقف.
ولكن بعيداً عن هذه التطورات المؤسفة التي أعقبت ثورات الربيع العربي وتحولها إلى ثورات خريفية بامتياز، يظل السؤال الرئيسي قائماً: ما الأسباب الحقيقية لظهور «داعش»؟
حين فكرت في الأمر ملياً وجدت الإجابة في عبارة واحدة هي فشل التحديث في العالم العربي وإخفاق الحداثة! كنت قد عالجت هذا الموضوع من قبل في سلسلة مقالات نشرتها في كتابي «الحوار الحضاري في عصر العولمة»، وكان موضوعها الرئيسي «العرب على مشارف القرن الحادي والعشرين».
توصلت من خلال دراسة متعمقة إلى أن فشل التحديث هو أحد أسباب قيام «داعش» ونعني به المحاولات المخططة لنقل مجتمع تقليدي زراعياً كان أو قبلياً لكي يصبح مجتمعاً حديثاً اقتداء بالدول الأوروبية التي مرت بنفس التجربة حيث انتقلت من الاقتصاد الزراعي إلى نمط المجتمع الصناعي، بما صاحب ذلك انقلابات كاملة في أساليب الحياة والقيم والسلوك الاجتماعي وقدرة المجتمع الحديث على إشباع الحاجات الأساسية المادية والمعنوية للجماهير العريضة.
ولا شك في أنه باستدعاء تاريخ التحول الأوروبي من المجتمع الزراعي الإقطاعي بجموده ومحاصرته لحركة الجماهير إلى المجتمع الصناعي الزاخر بالآلام الاجتماعية الكبرى، حيث سخر الرجال والنساء والأطفال في العمل في المصانع ساعات طويلة، ومن دون ضمانات اجتماعية، ناهيك عن صراع القيم الحاد والعنيف بين قيم المجتمع الزراعي البدائية وقيم المجتمع الصناعي التقدمية الصاعدة. غير أننا في العالم العربي وخصوصاً بعد رحيل الاستعمار عنه في الخمسينات ونهاية نظم الوصاية والانتداب وظهور الدولة الوطنية باعتبارها المعبرة عن تطلعات الجماهير في التقدم لمواكبة العصر سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس! وقد قامت انقلابات عسكرية متعددة على النظم الديموقراطية التي كانت قد بدأت ممارستها في عصر الاستعمار ثم ظهرت ثورات متعددة من أبرزها ثورة 23 يوليو 1952 في مصر التي غيرت من وجه الحياة في مصر والعالم العربي، إضافة إلى «الانقلابات – الثورات» في كل من سورية والعراق ثم ليبيا بعد ذلك.
غير أنه تبين أنه – على رغم الحصاد الإيجابي لبعض هذه الثورات في مجال تحقيق توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وتنفيذ حلم العدالة الاجتماعية المؤجل - فإن كل هذه النظم السياسية الجديدة بلا استثناء تحولت إلى نظم سلطوية قمعت حركة الجماهير السياسية. وأسوأ من ذلك أن بداياتها الموفقة في التحديث سرعان ما سقطت أسيرة للقمع السياسي والجمود البيروقراطي.
وهكذا فشل التحديث السلطوي ليترك فراغاً واسعاً ملأته الحركات الدينية المتطرفة، وفي مقدمها جماعة «الإخوان المسلمين» والسلفيين ثم الحركات الجهادية الإرهابية التي مارست الإرهاب تحت شعار الإسلام للأسف الشديد.
هذا الفراغ الاجتماعي والثقافي الواسع الذي لم تستطع أن تملأه الأنظمة السلطوية العربية عن طريق سياسات اجتماعية وثقافية، هو الذي أدى إلى غزو الجماعات الجهادية والتكفيرية لعقول ملايين المواطنين العرب البسطاء الذين تشيع فيهم نسبة الأمية لتصل إلى 40 في المئة. وهذا المؤشر الكمي يكشف في الواقع عن البيئة المتدنية الثقافية التي سادتها أنماط الوعي الديني الزائف، والتي هي السبب الحقيقي في ظهور الحركات التكفيرية عموماً، مثل تنظيم «القاعدة» الإرهابي وبروز «داعش» أخيراً كصورة نموذجية للتخلف الديني والحضاري.
وهكذا يمكن القول أن فشل التحديث السلطوي هو أحد الأسباب الحقيقية لظهور الحركات الجهادية التكفيرية وأخطرها الآن «داعش». غير أن هناك سبباً إضافياً قد يكون أعمق في تأثيره من فشل التحديث، وهو إخفاق «الحداثة» على النمط الغربي في أن تسود المناخ الفكري في العالم العربي.
وللحداثة أنواع متعددة، فهناك حداثة سياسية رمزها الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وأهم من ذلك حداثة فكرية شعارها «العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني».
توصلت أوروبا إلى هذا الشعار البالغ الأهمية في ظل سيادة نظرية العلمانية التي فصلت فصلاً قاطعاً عن الدين والسياسة. ويرد ذلك إلى التحكم الذي مارسته الكنيسة والتي أرادت الهيمنة على مجمل فضاء المجتمعات الغربية.
غير أننا في العالم العربي – وعلى رغم جهود رواد النهضة العربية الأولى – لم نستطع أن نجعل العقل هو محك الحكم على الأشياء، وحاربت التيارات الدينية معتدلة كانت أو متطرفة كل محاولات تجديد الفكر الديني في الثلاثينات في مصر، وأبرزها كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، والذي جوبه بمعركة دينية وسياسية كبرى.
كان هذا هو رد المجتمع العربي الذي هيمن عليه النص الديني بتفسيراته التقليدية أو الرجعية، مما جعل تيار الحداثة يتقهقر وتيار التطرف الديني يتقدم حتى شغل الفضاء العام العربي، وأوصلنا - من دون أي فخر – إلى كارثة «داعش»!
* كاتب مصري |