من المرجح أن يكون لذكرى الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر وقع مختلف هذا العام، فالانتصار على تنظيم القاعدة وملاحقة فلوله لم يبقَ من رصيدهما سوى الذكريات غير السارة. الإدارة الأميركية التي رفعت لواء الحرب العالمية على الإرهاب خسرت في الداخل والخارج معاً، والتنظيم خسر العديد من كوادره الأساسية ومن قدرته على شن هجمات مؤثرة على المصالح الغربية. أيضاً، المصالح الغربية في المنطقة لم تعد واضحة للعيان كما كانت مع مطلع الألفية، فالإدارة الأميركية الحالية بذلت جهوداً للانسحاب منها، لم تفلح معها محاولات اللاعبين الإقليميين في جذبها إليها ثانية.
كان الرئيس السابق جورج بوش يقضي عطلات طويلة جداً في مزرعته، مثار تندر في الأوساط الأميركية، إلى أن داهمته الهجمات الإرهابية على بلاده. شيء من هذا القبيل حدث مع أوباما مؤخراً بإعدام الصحافي جيمس فولي، لكنه لا يزال مصراً على أنه ليس سلفه، ولن يكرر أخطاءه، لذا يُظهر اطمئناناً بديلاً عن انفعال سلفه و»تهوره»، وإن كان في المقابل يتبع خطاه من حيث العمل على بناء تحالف دولي وإقليمي للحرب على داعش، وإن كان أيضاً لا يزال مصراً على حصر ساحة المعركة فلا يعلنها حرباً عالمية غير محدودة. الأهم، ربما، أن أوباما لا يستخدم لغة الترهيب لإنشاء الحلف الجديد، بخاصة إزاء الحلفاء المحتملين إقليمياً، فهو يدع لداعش القيام بترهيبهم نيابة عن إدارته!
لكن أوجه التشابه بين سبتمبرَيْن لا ينبغي أن تنسينا الفوارق الكبيرة بينهما، فالتاريخ لا يعيد نفسه أبداً، وإذا صحّ أنه يفعل بابتذال فهذا ما ينطبق على المقارنة بين دولة القاعدة في أفغانستان ودولة داعش في العراق والشام. وفي حين كانت القاعدة في أفغانستان تمثل الدولة العميقة، تاركة الواجهة للشركاء المحليين، لا يرى أمراء داعش ضرورة لإتيكيت مشابه، بل يطرحون أنفسهم ودولتهم خلافة أممية ناجزة. من تنظيم عابر للحدود إلى خلافة «دولة» عابرة لها؛ الأمر الذي يلغي مقتضيات التكيف مع الواقع التي حكمت تنظيم القاعدة، ويتطلب من الواقع تكييف نفسه مع الخلافة المفروضة عليه، ولئن ظهر داعش كاصطفاء منطقي لمنهج القاعدة، إلا أنه أتى كقَطْع معه، على أرضية عدم راديكالية الأخيرة كفايةً. لقد أصبحت القاعدة من التاريخ، بعدما أعلن داعش الخلافة بصفتها نهاية التاريخ، مع أسوأ الموبقات التي يمكن أن تميز لوثة النهايات.
من كهوف قندهار إلى البادية والصحراء الواقعتين على الحدود السورية العراقية، الفارق هنا لا يتوقف عند الاعتبارات اللوجستية، هو فارق بين التواء المعنى أو تعرجه وبين وضوحه التام. لكن في الاعتبارات اللوجستية المباشرة لا يجوز إغفال الوضوح الحالي مقارنة بمفاجأة القاعدة حين تنفيذها هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فداعش «الدولة» موجود في أراضٍ لا تسمح طبيعتها بهامش كبير من المناورة العسكرية، ويحوز على أسلحة لا يستطيع نقلها أو تحريكها بعيداً عن الرقابة الجوية والفضائية. مصادر تمويل التنظيم لا يلفها الغموض على النحو الذي أربك أجهزة الاستخبارات الغربية في مواجهتها مع القاعدة، فصفقات بيع النظام النفط والحبوب في سورية معروفة للقاصي والداني، ومن ثم الاستيلاء على موجودات المصرف المركزي في الموصل وعتاد الجيش العراقي المنهزم. هذه المصادر تهمش التحويلات المالية الفردية السابقة، طالما أتيح لداعش مكانة الدولة تجارةً مع النظام السوري، واحتلالاً مع نظيره العراقي. تجفيف المنابع المالية لإرهاب داعش أسهل نظرياً، صعوبته تأتي في المقام الأول من عدم الرغبة في فضح تجارته متعددة المستويات مع النظام السوري، وتصنيف الأخير كشريك في الإرهاب وفق القانون الدولي.
إثر هجمات سبتمبر شاعت فرضية أن حرب بوش على الإرهاب تلبي مصلحة للطرفين، فهي تُبعد الخطر عن الأراضي الأميركية، وفي الوقت نفسه تستدرج الجنود الأميركيين إلى مرمى نيران القاعدة بدل التخطيط المديد لهجمات مقبلة. فرضية الاستدراج هذه غير متحققة اليوم لأن إستراتيجية أوباما لا تقوم على المواجهة المباشرة على الأرض، وتعوّل على الشركاء المحليين للقيام بتلك المهمة. على صعيد متصل، لا ترغب إدارة أوباما في استهداف داعش بحرب خاطفة وقاصمة، ولا تطرح من خلال الحلف الجديد تصورات مستقبلية للمنطقة أو العالم، على غرار ما فعله المحافظون الجدد. مشكلة الإدارة الحالية هي مع شعار داعش «باقية وتتمدد»، وجودها وتمددها في سورية طوال عام ليس بذي شأن قياساً إلى تمددها خارج الحدود. طوال عام كانت الإشارات تتوالى عن رضا الإدارة ببقاء سورية كساحة حرب بين التطرفَيْن الإسلاميَّيْن، واليوم أيضاً تتوالى الإشارات عن بحث الإدارة عن حل لمشكلة داعش العراقية من دون التورط في الشق السوري. فرنسا، التي صنفها رامسفيلد يوماً ضمن «أوروبا العجوز»، تحاول قطع الطريق على التوجهات الأميركية بالتركيز على الشق السوري من داعش، لعل ذلك يشي بحقيقة الحرب المحدودة التي تريدها الإدارة الأميركية، الإدارة الأكثر تواضعاً من أن تنسب لنفسها نية استئصال الإرهاب.
إذا استثنينا غزو العراق، كانت الحرب على الإرهاب محط إجماع عالمي، ما أضعف القاعدة من جهة التمويل وتجنيد المنتسبين في دول الغرب والمنطقة. اليوم، وكما ابتُذلت أممية التنظيم إلى أممية الخلافة، تظهر مقدمات الحرب الجديدة متهافتة، وربما يشوبها بعض اليأس. قوة القاعدة كانت تنبع من وجود متعاطفين محليين معها على أرضية العداء للغرب، أما قوة داعش فيأتي قسم لا يستهان به منها من تردد الغرب إزاء محاربته عندما كان أذاه محلياً فقط. هي حرب، على ضرورتها، لا تزال تفتقر إلى المصداقية وروح المشاركة الحقيقية بين الحلفاء المحتملين، فضلاً عن افتقارها إلى إستراتيجية غربية فعالة للمشاركة في حل الأزمات البنيوية للمنطقة، بدل تركها مصدر تهديد لأبنائها وللعالم. بين سبتمبرين، سيكون من دواعي اليأس ألا يتغير العالم، وألا يستفيد من الدرس. الحرب الجديدة بلا شك على الأبواب، لكن العبرة في كيفية إنهائها لا في بدئها؛ الفضيلة التي لا يستطيع الغرب ادعاءها في العديد من التجارب التي تخص المنطقة. |