انتقلت المعارضة الجزائرية الى الحديث عن المنصب الرئاسي الشاغر، في نطاق الصراع على السلطة الذي حسم انتخابياً وبقي عالقاً ميدانياً. واختار المرشح المنافس لرجل قصر المرادية علي بن فليس أن يجعل من الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة برنامج استقطاب. كونه يعزف على وتر الاعتزاز بالشخصية الجزائرية. ويخفي في الوقت نفسه منافسات تدور وراء الستار.
بيد أن إطلاقه العنان للشوط الثاني في عراك ما بعد الحسم الانتخابي، من تحت عباءة الحزب الإسلامي «جبهة العدالة والتنمية» ينم عن تحول في مسار التحالفات، بخاصة بعد إقصاء المستشار المتنفذ عبدالعزيز بلخادم الذي صنف بأنه أقرب إلى نبرة الإسلاميين المعتدلين. ويبدو أن بن فليس وضع الحالة الصحية للرئيس بمثابة برنامج سياسي. وانتقل من انتقاد أجواء الانتخابات إلى ملامسة ما يعتبره مكامن خلل في تدبير شؤون البلاد. وكأنه يريد القول أن المشكلة تتلخص في غياب سلطة الرئيس. ما دفعه إلى التساؤل عن أسباب انكفائه وعدم القيام بممارسات دستورية، من مستوى استقبال السفراء الأجانب والتصديق على القوانين في مجلس وزاري قبل إحالتها على المجلس الاشتراعي.
تحول لافت في خطاب المعارضة، قد يكون مبعثه إدراكها أن ساعة ركوب قطار التغيير قد حانت. وأن أي تأخر قد يجعله يرسو على غير طموحاتها السياسية. وبالقدر الذي أخلى إقصاء عبدالعزيز بلخادم المجال أمام المحيط الضيق لرئاسة الجمهورية، بالقدر الذي منح المعارضة نفسا جديدا لم تكن تتصوره إلى وقت قريب، بالنظر إلى اندماج بلخادم في مشروع الرئيس بوتفليقة بكافة جزئياته وتفاصيله. غير أن الخلاص منه إن كان أراح خصومه، فإنه حوله إلى دفعة قوية لفائدة المعارضة التي لم تكن تخفي في الآونة الأخيرة بعض تعاطفها ونبرتها الإصلاحية في مواجهة الحكومة وليس رئاسة الجمهورية.
عادت الأجواء إلى ما قبل اقتراع الولاية الرابعة. بات مطلب التغيير ملحاً لأن الجزائر خرجت من ذلك الاستحقاق معافاة، ولم تعرف ما تصنعه بفترة النقاهة التي طالت وفق معارضي النظام. الراجح أن تثبيت الأوضاع كان وراء تمديد ولاية بوتفليقة. لكن انفجار الأحداث في غرداية وتنامي الاحتجاجات أشاع شعوراً بالإحباط حيال الآمال التي كانت معقودة. فقد أفلحت الجزائر في تجنب مضاعفات اهتزاز الربيع العربي، لأن الشارع اكتوى بسنوات العنف المريرة التي حصدت أرواح مئات الآلاف. لكنها لم تتمكن من صوغ مصالحة سياسية بين المعارضة وأركان الحكم، تتخذ من التداول السلمي على السلطة قاعدة محورية.
قد يعزى ذلك إلى المخاوف الناشئة من تحريك الخنادق الثابتة في محيط السلطة، ومن تداعيات الفراغ المحتمل. وبعد أن كانت البلاد تواجه شبح الإسلاميين المتشددين الذين صعدوا إلى الجبال، أضحت أسيرة القوى المحافظة التي لا تدفع في اتجاه التغيير، إلا بالقدر الذي لا يجعل المعبد يهوي على رؤوس الجميع. لكن رسالة بن فليس تميل إلى تطمين أكثر من جهة بأن شغور المنصب الرئيسي هو الأساس، أما كيفية ملء الفراغ، فتلك مسألة ديموقراطية تتطلب العودة إلى صناديق الاقتراع، إن لم يكن اليوم فعند أقرب فرصة مواتية.
بيد أن العودة إلى أجواء سابقة تعكس في جانبها الإيجابي أن لا بديل من الخيار الديموقراطي، وأن التغيير الهادئ من الداخل أفضل من أي مغامرة غير محسوبة تقود البلاد إلى الخلف. أفادت الجزائر من تجربتها المؤلمة في العشرية الدموية، ولم تندفع في اتجاه المجهول الذي خيم على المنطقة برمتها. وستكون إفادتها أكبر وقد عاينت سقوط الخيارات التي لا تبنى على احترام التعددية وهوية الاختلاف وشرعية التداول السلمي على السلطة. ولعل ميزة المعارضة الجزائرية أنها تتشكل من فرقاء وزعامات لم تكن بعيدة عن السلطة، أي أنها تملك التجربة والمعرفة والإلمام بخفايا المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجهها البلاد.
بقي على الأطراف الأخرى التي تشكل المحيط الأقرب إلى الرئاسة ومراكز النفوذ أن تدرك أنها استنفدت الأدوار الانفرادية، ولا مبرر لمعاودة تكرار سياسة صنع الأزمات لأن ذلك يقود إلى مأزق. السؤال الكبير: هل مشكل الجزائر يتعلق بسلطة الرئاسة، سواء كانت فاعلة أو شاغرة أم أنه أكبر من ذلك؟ ففي دولة المؤسسات لا يحدث الفراغ، لأن استمرارية الدولة تستند إلى آليات ومؤسسات لا تتوقف عن العمل، بل إن بعض الأزمات تساعد على أن تشتغل أكثر، وربما حان الوقت لإجراء تشخيص طبي يتجاوز الأوضاع الصحية للأشخاص نحو معضلات العطل الذي يصيب أطراف الدولة في مقتل. |