في 16 آذار 1985، أدرك كبير مراسلي "الأسوشيتد برس" في الشرق الأوسط تيري أندرسون انه ارتكب "خطأ فظيعاً، والآن سأدفع ثمن عدم الاصغاء الى نصيحة مغادرة بيروت التي أفرغتها الحرب من المراسلين الأجانب. عائداً من مباراة في كرة المضرب مع أحد أصدقائه، وجد الصحافي الأميركي نفسه في صندوق سيارة نقلته الى الأسر، وجعلته الأجنبي الذي أمضى الوقت الأطول مخطوفاً في "الغربية".
في مكتبه في جامعة سيراكيوز بولاية نيويورك، حيث يشغل هذه السنة موقع أستاذ زائر في كلية نيوهاوس التي تدرّس الصحافة والاعلام والعلاقات العامة، تحدث أندرسون الى "النهار" عن الخطف ولبنان الذي يحب "وأعتقد انه بلد ساحر، لكنني أكره كل الاسمنت الذي يجتاحه". في حديثه أيضاً همس مضمر ينتقد سياسة أميركية خارجية "لا تُصنَع في وزارة الخارجية بل في البيت الأبيض، الذي لا يكترث ساكنوه سوى بالسياسة المحلية وإعادة الانتخاب".
لم تكن عملية الخطف المحاولة الأولى التي يتعرض لها أندرسون، بل تلت محاولة فاشلة في الليلة التي سبقت: "كنت أحمق! هل من الممكن ألا يحاولوا خطفي مجدداً في اليوم التالي؟ في اللحظة التي سحبت فيها من سيارتي أدركت ان الأمر سيكون طويلاً وسيئاً"، انطلاقاً من متابعته الميدانية لـ "موجة" خطف الرهائن الأجانب التي طبعت المراحل الأخيرة من الحرب اللبنانية، واقتناعه بأن الأمر "سياسي ولا يتعلق بدفع فدية والعودة الى المنزل". نَدمَ الرجل لأنه لم يستمع الى نصائح وكالته بالمغادرة "لأنني كنت مقتنعاً بأن الوقت لم يحن بعد ومن المهم تغطية ما يحدث. الأكيد انني ندمت لأن أحداً لا يريد خوض هذه التجربة".
"نحن آسفون" أمضى أندرسون نحو ست سنوات ونصف سنة في أيدي "مجموعة من حزب الله يقودها عماد مغنية، وأنا واثق من انه مسؤول عن الخطف" لأهداف عدة، أبرزها "إطلاق أحد أشقائه الذي كان معتقلاً في الكويت". أمضى الصحافي الأميركي نحو سنة في الاحتجاز الافرادي، قبل ان "يتعرف" الى عدد من المخطوفين الأجانب الآخرين، أمثال القس تيري وايت ومارسيل فونتين وجون ماكارثي "وحتى شخص كويتي لم نعرف سبب وجوده بيننا". لم تكن العلاقة مع المخطوفين الآخرين سهلة، فالظروف الصعبة وطول مدة الاعتقال جعلت التواصل صعباً "لكننا تحدثنا في كل شيء. حاولنا دعم بعضنا البعض، وأرى بعد التجربة ان هؤلاء ساعدوني في المحافظة على عقلٍ سليم، وآمل ان أكون قد أديت دوراً مماثلاً بالنسبة اليهم".
لم يسمح لأندرسون أو أيٍّ من المخطوفين الأجانب بإلقاء نظرة على خاطفيهم "اذ أمضينا معظم الوقت معصوبي العينين". عبر الصوت كان تواصلٌ مع شخص أطلق أندرسون عليه لقب "الكابتن"، ويعتقد انه كان مسؤولاً عن المجموعة "زارنا مرة كل شهر أو شهرين. كان يجلس بجانبي ويسألني: كيفك تيري؟ هل تحتاج الى شيء؟... أجبته مرة: نعم، سيارة تاكسي!". الصوت أيضاً قاده الى شخص آخر يعتقد انه كان مسؤول ارتباط ايرانياً "أطلقنا عليه اسم Trust Me Ali (ثق بي علي)، لكثرة ما ردد على مسامعنا ان المفاوضات تتقدم وسنطلق قريباً". انتظر "التقدم" حتى 4 كانون الأول 1991، بعدما وضعت الحرب أوزارها "وبات الخاطفون على اقتناع ان ما أقدموا عليه لم يؤت ثماره، وهذا نقلاً عن لسانهم". كان أندرسون على يقين ان موعد إطلاقه اقترب بعدما بدأ الافراج تباعاً عن عدد من الرهائن "بيد انني كنت الأخير. لماذا؟ ربما كنت ذا قيمة أكبر للخاطفين لأنني أميركي، أو لأنني صحافي وخطفي يكسبهم دعاية عالمية". سرت شائعات كثيرة قبل ان يصل خطفه الى خاتمته، منها صباح يوم إطلاقه "اذ سمعت على الراديو انني أصبحت في طريقي الى دمشق!". تأخر الموعد ولم يُكذّب الخبر، فمساء اليوم نفسه استعد أندرسون للمغادرة، ارتدى ملابسه وتسلم من الخاطفين نصف دزينة من القرنفل "قالوا لي: قدِّمها الى زوجتك وقل لها نحن آسفون". على الطريق الى بعلبك، ألقى أندرسون الباقة من نافذة السيارة التي تركته على قارعة الطريق، قبل ان تتسلمه المخابرات السورية وينقل بعدها الى وزارة الخارجية في دمشق حيث كان في انتظاره طاقم من السفارة الأميركية "وحينها تعرفت الى ابنتي للمرة الأولى، وكان عمرها ست سنوات".
لبنان والحزب والمنطقة لم يغب أندرسون عن لبنان كثيراً. عاد اليه عام 1995 لإعداد وثائقي عن انبعاث الوطن الصغير من ركام الحرب. أراد ان يحيي تجربة شخصية وينقل للأميركيين صورة عن لبنان الذي عرفه وما زال يحبه. ذهب لمقابلة الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله "وسؤالي الأخير له كان عن خطف الأجانب، وكان أكيداً من انني سأستفسر عن الموضوع. الجميع يعلمون ان الحزب، رغم انكاره الدائم، كان مسؤولاً عن خطف الأجانب. لم يعتبر نصرالله الأمر خطأ، بل قال إنه "مجرد أمر جرى أثناء الحرب".
نظر أندرسون الى خاطفيه باعتبارهم "أشراراً يخطفون أجانب لأسباب سياسية، ولهذا هم إرهابيون". قالها لـ "الكابتن" الذي غادر "زنزانة" الصحافي الأميركي غاضباً، علماً ان أندرسون كان يمنع مراسلي "الاسوشيتد برس" في الشرق الأوسط من استخدام هذه العبارة. أما "الجانب الآخر" من "حزب الله" فموضوع آخر، اذ "تكون إرهابياً عندما تقتل أبرياء لأسباب سياسية، لكن لا مبرر لأن ينعتك أحد بالارهابي حينما تقاتل من يحاول السيطرة على بلادك. لا أعتقد ان حزب الله إرهابي عندما يشارك في مجلس النواب والحكومة، رغم ان الادارة الأميركية ما زالت على تصنيفها له. بالنسبة إلي هو حزب سياسي يحاول كغيره من الأحزاب نيل حصته من السلطة". مقاربته الجديدة لـ "خاطفيه القدامى" جزء من الحوارات التي يعقدها في أميركا والعالم، ويتحدث فيها مع طلابه الذين يرافق بعضاً منهم الى لبنان خلال الصيف "للاستماع الى وجهة نظر مختلفة عن الأمور في المنطقة، وليس ضرورياً ان تكون خطأ لأنها مختلفة. تحدثت عن الاسلام والشرق الأوسط ولبنان بايجابية لمدة 20 سنة في الولايات المتحدة، حيث ثمة اعتقاد أن كل المسلمين إرهابيون. يستغرب الناس حديثي الايجابي عن لبنان، وردي انني أحبه ومتزوج من لبنانية وأعود اليه كلما أتيحت لي الفرصة".
أما في المنطقة التي خبرها سنوات، فيرى أندرسون "ربيعاً عربياً ملهماً، لكن إطلاق ثورة يختلف عن إقامة ديموقراطية. هل ينجح الأمر في مصر أو تونس؟ في الأولى يتعلق الأمر بما سيقوم به الجيش، وفي الثانية الاسلاميون. ليبيا مشكلة لأنها لم تتمتع يوماً بكيان دولة. مسار الأمور غير واضح في سوريا، لكن الأكيد ان سقوط (الرئيس السوري بشار) الأسد سيكون إيجابياً للبنان. لم تعرف سوريا تجربة ديموقراطية، لكن الشعب بات يطالب بها، والأمل في ان يتولى ناس عقلانيون زمام الأمور". ولدى سؤاله عن الاعتقاد الجيو - سياسي الدائم في المنطقة بأن إسرائيل تتوجس من أي تغيير في سوريا خوفاً من انعكاسه عليها، يحيل أندرسون سائله على "ما جرى أمام السفارة الاسرائيلية في القاهرة. أعتقد ان اسرائيل ستقوم بما تعتبره لمصلحتها بغض النظر عن أي أمر آخر. مضت عقود ولمّا يخرق خط الهدنة بين سوريا واسرائيل، ومن الواضح ان نظام الأسد لا يمثل مشكلة بالنسبة الى الاسرائيليين الذين لا أعتقد انهم أعدوا سياسة فاعلة حيال الربيع العربي، ولا يعرفون ما يجب القيام به، يرون العالم من حولهم يتغير بينما هم يفضلون ما لديهم". ولا ينكر ان "كل الديكتاتوريات التي سقطت حتى تاريخه كانت تحظى برعاية أميركية، حتى صدام حسين كان رجُلَنا. لدينا (الأميركيون) نزعة لتفضيل الاستقرار على ما عداه. أعتقد ان الأمر بدأ يتغير، لكن الأشخاص في واشنطن ليسوا أغبياء. ثمة حدود لعدد الثورات التي يمكننا التورط فيها. الادارة الأميركية تدرك انه لا يمكنها الانخراط في سوريا كما فعلت في ليبيا".
|