| بيروت ـ من وسام أبوحرفوش |
لا يمكن الاطلالة على بيروت إلا عبر بوابتيْ دمشق ولاهاي، فكل شيء في العاصمة اللبنانية و«اي شيء» يرتبط بمسارين لا ثالث لهما: «كرة النار» المتدحرجة في سورية و«وهجها» الذي يصيب لبنان و«تموضعات» اطراف الصراع فيه، و«المطرقة» المرفوعة من المحكمة الدولية في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، استعداداً لبدء المحاكمات الغيابية لاربعة متهمين من «حزب الله».
الملفان (سورية والمحكمة) يختزلان المشهد وتوتراته، السياسية «من فوق» والامنية «من تحت»، ويلقيان بثقلهما على حكومة «التحالف الاضطراري» التي ولدت في زمن مغاير كانت فيه سورية بأحسن احوالها، الامر الذي يجعل مصيرها (الحكومة) على محك دائم، نتيجة «الكوابيس» التي تهب من العاصفة السورية، ومن استحقاقات المحكمة الدولية كتمويلها وتجديد بروتوكولها وبدء محاكماتها.
ولفهم طبيعة التحديات الخطرة التي تواجه «الوطن الهش» في لحظة الغليان من حوله، لا بد من عرض ما هو «خلف الكلام» في مواقف الاطراف الرئيسية في البلاد كـ «حزب الله» المحلي ـ الاقليمي و«تيار المستقبل» بزعامة سعد الحريري في موقعيه الداخلي والخارجي، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط «بيضة القبان» في لعبة التوازنات الداخلية وصاحب «الرادارات اللاقطة»، اضافة الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
لم يقل الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله «اقل او اكثر» مما قالته «الراي» من موقف حزبه في تقرير خاص نشرته السبت الماضي عنوانه «حزب الله لن يدع الاسد يسقط مهما كان الثمن». ففي اطلالته التلفزيونية ليل اول من امس كان حاسماً في وقوفه الى جانب نظام الرئيس بشار الاسد «المقاوم والاصلاحي»، والى جانب السواد الاعظم من «الشعب» الذي يؤيد اصلاحات الاسد ويدعم خياراته.
لم ير نصرالله معارضة شعبية فعلية او حقيقية في سورية، وتحدث عن معارضة «متفاوتة» لم نسمع خطابها عن فلسطين، ورأى ان ما يحدث مؤامرة خارجية لارغام الاسد على تغيير خياره «الممانع»، ملوحاً بـ «حرب اقليمية» في حال تدخل الاطلسي عندما المح الى استبعاده تكرار السيناريو الليبي لان الاطلسي سيأخذ اسرائيل في الحسبان، لافتاً الى اننا «لسنا مع اسقاط نظام مقاوم وجاهز للاصلاح وبدأ به»، داعياً الى الهدوء والخروج من الشارع ووقف اي شكل من اشكال المواجهة والذهاب الى الحوار لتحقيق اصلاحات.
وخرج نصرالله عن صمته حيال ملف تمويل المحكمة معلناً لا جازمة ونهائية لهذا التمويل، داعياً الى التوافق في مجلس الوزراء او الذهاب الى التصويت «واذا لم يوافق مجلس الوزراء على التمويل سيسلم الكل بقرار هذه المؤسسة»، مستبعداً استقالة ميقاتي، ومراهناً على ديموقراطية الغرب في احترام المؤسسات اللبنانية وقراراتها الامر الذي من شأنه اسقاط عملية التهويل بفرض عقوبات على لبنان. وبدا واضحاً ان نصرالله، الذي عمل على «ترقية» نظام الاسد من رتبة الممانعة الى مرتبة المقاومة، كان جازماً في انحيازه الحاسم الى نظام الاسد في معركة «مصير مشترك» للدفاع عن المقاومة والامة، ولم تكن اشارته الى الاطلسي واسرائيل مجرد «تسجيل موقف» بقدر ما تعكس خياراً على طريقة آخر الدواء الكي.
واطلالة نصرالله كانت مشابهة لاطلالة جنبلاط ومن على شاشة «المنار» عينها في الرابع عشر من هذا الشهر وبعد يوم واحد من لقاء جمع الرجلين حول الملفات نفسها التي تناولها الامين العام لـ «حزب الله»، لا سيما المحكمة وسورية، اضافة الى موقع الطرفين في اطار اللعبة السياسية الداخلية، وفي تموضعهما الاقليمي.
جنبلاط، الذي كيفما مال تميل الاكثرية البرلمانية قال يومها انه باقٍ في التحالف الحكومي الذي يضمه مع «حزب الله»، لكنه كان حريصاً على ابراز تمايزه عن افرقاء الاكثرية الاخرين حيال قضايا داخلية واقليمية، وفي مقدمها المحكمة الدولية التي سيصوت لتمويلها، وسورية التي يناصر شعبها ويدعو نظامها الى «خريطة طريق» تنهي القتل وتقر الاصلاحات. ما لم يقله جنبلاط «على الهواء» حول ما دار في لقاء الثلاث ساعات مع نصرالله اوضحته مصادر معنية لـ «الراي» فأشارت الى ان زعيم «الاشتراكي» الذي بدا مرتاحاً في مكاشفته مع الامين العام لـ «حزب الله» على غير العادة في المرات الاخيرة، تحدث عن ثلاث قضايا اساسية هي:
? الحاجة الى تمويل المحكمة الدولية. فرغم ادراك موقف «حزب الله» الرافض لها وتقدير مبرراته، الا انه لا مصلحة للبنان كدولة في الامتناع عن التمويل. فهذا الامتناع لن يوقف المحكمة وسيجر على البلاد اخطاراً فعلية كالعقوبات وما شابه، وسيعرض الوحدة الداخلية لاختبار صعب. ? تأكيد جنبلاط تمسكه بمعادلة «الجيش والشعب والمقاومة» في اللحظة الراهنة، لكنه حض نصرالله على ضرورة العمل مستقبلاً على وضع قرار السلم والحرب في يد الدولة، التي يشكل «حزب الله» احد مكوناتها الفعلية نظراً لمكانته التمثيلية الحقيقية التي لا يمكن لأحد الانتقاص منها.
? الاستفاضة في مناقشة ما يجري في سورية في ضوء ما يملكه جنبلاط من معطيات مستقاة من زياراته لموسكو وانقرة والدوحة وباريس، اضافة الى دمشق، ودعوة «حزب الله» الى عدم ربط مصيره بمصير نظام الاسد وحضه على الانفتاح على الشعب السوري، لان في هذا الامر مصلحة حيوية للحزب وللبنان.
لم تشر تلك الاوساط الى ما قاله نصرالله في تلك الجلسة، لكنها تحدثت عن استياء سوري بالغ مما قاله جنبلاط ومن على شاشة «المنار» التي تحظى بمشاهدة «واسعة في سورية»، لافتة الى ان النظام في دمشق اوصد الابواب تماماً في وجه زعيم «الاشتراكي» وموفده.
وعلمت «الراي» ان جنبلاط الذي سيطل آخر الشهر عبر جمعية عمومية لحزبه سيكرس موقفه مما يجري في الداخل اللبناني وفي سورية، فهو يحرص على علاقته «الاستراتيجية» مع «حزب الله» لكنه يحرص وبالقدر عينه على حرية خياراته حيال القضايا المطروحة في البلاد، لا سيما في دعمه تمويل المحكمة وفي انحيازه لـ «الثورة» في سورية.
وفي تقدير أوساط واسعة الاطلاع ان رفض «حزب الله» تمويل المحكمة لا يعني انه في وارد خوض «حرب» لاسقاطه، وربما يدير الظهر لمخرج ما يمرر التمويل تفادياً للتضحية بالحكومة التي قد يدفع رئيسها ميقاتي الى معادلة اما التمويل واما الاستقالة، وتجنباً لعقوبات على لبنان تصيب سورية التي تحتاج لابقائه «رئة» تتنفس منها في ظل العقوبات المتعاظمة ضدها.
فالرئيس ميقاتي، بحسب المحيطين به، لن يرفع الرايات البيض امام اي توازنات من شأنها اسقاط التمويل في الحكومة التي التزمت في بيانها الوزاري وامام البرلمان بمسار المحكمة وتمويلها. وذهب احد الذين يعرفون رئيس الحكومة الى حد القول ان «ميقاتي الذي لم يتخل عن (مدير اوجيرو) عبد المنعم يوسف لن يتخلى بالتأكيد عن دم رفيق الحريري».
أين سعد الحريري في كل ما يحصل؟... سؤال فرضه غياب زعيم «تيار المستقبل» الموجود في الخارج في «منفاه» الطوعي بين الرياض وباريس. والجواب يراوح بين ما هو «امني» في ضوء المعلومات السابقة التي كانت تحدثت عن نصائح تلقاها بضرورة الابتعاد عن البلاد لحفظ رأسه في لحظة «تغيير الدول»، وبين ما هو سياسي مع اعلان «تيار المستقبل» ان الوقوف ضد نظام الاسد ومع الشعب السوري ليس رهاناً بل هو «خياراً». هذا الموقف الحاسم للحريري ازاء ما يجري في سورية دفع المراقبين في بيروت الى القول انه هو الآخر (بعد «حزب الله») ربط مصيره السياسي بما يجري في سورية، وتالياً انه لن يعود الا عن طريق... الشام.
|