بداية، عزل الإخوان المسلمون المصريون أنفسهم سياسيا عن الآخرين بقصور نظر وباستعلائية مَرَضية وبعجرفة شرعية انتخابية تجهل مآلات الاقتراعات العمياء في إطار مجتمعات حديثة التعبير السياسي. إثر ذلك، وتحت مسمى تلبية المطالبات الجماهيرية، عزلهم الجيش المصري عن القيادة السياسية والحكومية، وبدأت سلسلة من الإجراءات غير المطمئنة على مستقبل مسار التغيير المرجو من قبل المصريين ومن يحب المصريين وما أكثرهم.
في هذا الجو المتوتر، لربما تخلى بعض السوريين المستضافين بانفتاح وبكرم من قبل أم الدنيا، عن واجب الحياد تجاه المسائل الداخلية، وانضم قليل منهم إلى الاحتجاجات التي رافقت عزل الرئيس المصري.
وقامت القيامة الإعلامية العنصرية لمجموعة من الكتبة الضعيفي الحجة السياسية والجزيلي الأفكار الإقصائية ضد جزء من مجتمعهم، وبالتالي، لا صعوبة في أن تتوجه سهام الكراهية والشتائم إلى أجزاء من مجتمعات "أجنبية". تبعتها بعض الإجراءات الأمنية والإدارية التي تعرّضت للسوريين، مما أجج ردود فعل غوغائية لا تتناسب، حمدا لله، مع عنف الهجوم غير المبرر إلا من قبل بعض من ذكرت آنفا.
وبدا بأن الأثر الأهم يبقى سياسيا بامتياز. فمن جهة الأبواق الإعلامية المقربة من كل الطغاة سابقا ولاحقا، فقد اعتُبر الحدث المصري إجهاضا محمودا ومشروعا للمخطط "الإسلاموي الامبريالي الصهيوني المريخي" المرسوم في غرف سرية تحت الماء يرتادها مجموعة من اللئام الذين تلتقي مصالحهم على تفتيت "الأمة" وسرقة "خيراتها" وضعضعة "تلاحمها" الوطني. وكما أن ما سبق كان جنات عدن متآلفة وطنيا ومليئة بالثروات الموزعة بالعدل والقسطاس ومنيعة على الأعداء المتربصين وما أكثرهم في مخيلتنا الغنية.
* * *
حصل ما حصل، وبدأت التأثيرات السياسية تتلاحق، وفي معزل عن التدخل في الشأن المصري، حتى لا أجّر إلى محاكم التفتيش النشطة هذه الأيام، أحاول أن اراقب بحذر انعكاسات الحدث المصري على المقتلة السورية سياسيا على الأقل.
فمن جهتهم، تلقف بعض السوريين، من عاشقي الظلم والمستلذَين بالقهر، هذا الحدث وهنأوا بعضهم بعضا باعتباره فشلا ذريعا للثورة المصرية، وعودة محمودة للعسكر المنضبط والمؤسسي إلى سدة القرار.
وفي معزل عن الجهل الفاقع لهذه الفئة المصابة بعقدة ستوكهولم بالواقع وبدور الشباب الثوري ومساهمة القوى السياسية التي أطاحت العهد المباركي الفاسد في الحلقة الجديدة من التغيير، التي خدعها الرئيس المعزول، والتي لولا أصواتها في الانتخابات لما نجح، فإن هذا التشفي ساهم في تأجيج ردود الفعل المقابلة وليس فقط من المكونات الإسلامية في الحراك السوري.
أما الإسلاميون السوريون على أنواعهم وتشعباتهم وتناقضاتهم، فقد تلقى المعتدلون منهم "صفعة" عقائدية إثر ما حصل. واعتبروا، عن حق ربما في ما يتعلق بمفاهيمهم، بأنهم قد رضوا بالهمّ على مضض (الديموقراطية) ولم يرض بهم الهمّ (الديموقراطية).
وبعيدا عن معرفة سطحية أو مجتزأة أو مشوهة بالمفهوم، فقد اعتبروا، عن حق أيضا، بأن خيبة الجزائر وما تلاها في غزة توِّجت بالواقع المصري المستجد. فعليهم إذا الاتعاظ من الدرس المصري لتلافي "خيانة" الشركاء العلمانيين في الحراك الثوري.
أما متطرفوهم، وهم قلّة، على الرغم من الوهم المعزّز بالأجانب في صفوفهم غير العابئين بالبلاد وبالعباد، مغسولي الدماغ والأفئدة، ملقني الظلامية والكراهية، فقد ارتاحوا إلى "نجاعة" موقفهم الشاتم لكل المستوردات المفاهيمية الفاسقة. وبالتالي، تأكيد عقم المسار الديموقراطي وبؤس مآلاته، لأن "الشيطان الأكبر" (ليس المهم تحديده، فلعله كان ممولا مستترا)، لا يريد لهذه البلاد إلا الدمار والتجزئة ومحاربة ما يعتقدون زورا وبهتانا بأنه الدين الحق. وهم في هذا، كما في ممارساتهم، يلتقون أيّما لقاء مع مناصري الاستبداد السلطوي، الذي يسعون لإخراجه من الباب الواسع ليعودوا هم به من طريق نافذة ظلاميتهم الضيّقة.
* * *
يبقى، ويجب ألا ننسى، المكوّن الأساسي والأهم للحراك الثوري السوري، والذي تنتمي مكوناته إلى كل التوجهات من إسلامية معتدلة لا تؤمن بالدولة الدينية، حفاظا على الدين على أقلّ تقدير، إلى الليبرالية المستجدة أو التقليدية، إلى القومية المتخلصة من عبادة الدوغمائية، إلى اليسارية التي طورت عقيدتها بعيدا عن المسبق الصنع والمنعدم الفهم. كلهم يراقبون "بقلق" مآلات الحالة المصرية. شعورهم التضامني الواسع مع حقوق شعب أم الدنيا في انقاذ ثورته من براثن الأحادية والتشفي والعزل والإقصاء، يقابله تمسكهم الذي يلامس التشبث بمفاهيم الديموقراطية غير الانتقائية ووجوب الاقتناع بها وتطبيقها واحترامها والحفاظ عليها. استاذ جامعي سوري في باريس
|