الجمعه ١١ - ٧ - ٢٠٢٥
بيانات
التاريخ:
شباط ٢٤, ٢٠١٣
المصدر:
جريدة الحياة
المغرب: تظاهرات الكرامة - محمد الاشهب
في «ميدلت» المغربية التي لا يأتي ذكرها في محطات السياسة إلا بنزر يسير، انطلقت تظاهرات شعبية عاصفة. لم يكن المحتجون يطالبون بإصلاحات سياسية أو اقتصادية أو مطالب اجتماعية. كانوا يهتفون ضد إهدار كرامة عامل بسيط أجبره أحد القضاة على تقبيل قدميه، كي يلغي متابعته في نزاع عابر.
استفاق سكان المدينة المترامية بين جبال وصحارى منطقة الوسط الشرقي على صورة مذهلة. فالناس بحكم طبيعتهم يتقبلون المرض ونقص الحاجة، لكنهم يناهضون الظلم، إذ يقترن باستفزاز المشاعر وإهانة الكرامة. وما حدث أن قضية العامل البسيط الذي يصلح السيارات قفزت إلى الواجهة كقضية رأي عام، بخاصة أن المشتبه في تورطه على إرغام ذلك المواطن على تقبيل قدميه، كان رجل قضاء، يفترض فيه أن يحتكم إلى ضميره والقانون الذي يحظر الاستعباد والإكراه والانحناء لغير الله.
على رغم أن الحادث في طريقه لأن يحسم قضائياً، في ظل الاستماع إلى إفادات الطرفين المعززة بوسائل الإثبات، فإن الشارع أصدر حكمه، ولم يكن ليفعل ذلك لولا المخاوف الناشئة من إمكان الالتفاف على الملف، ودلالات ذلك أن الوعي الذي تفجر في الشارع كان أكبر من أي محاولة لاحتواء الموقف، إذ لم يكن يناهض التصرف المنعزل للشخص المشتبه في تورطه فقط، بل كان يناصر قيم الحرية والمساواة ونبذ مظاهر استغلال النفوذ والاستعلاء على الناس عبر المناصب التي هي في جوهرها تكليف لا تشريف.
من بين حشود التظاهرات التي أصبحت تقليداً ديموقراطياً في الجهر بالمطالب والمظالم، كانت تخرج احتجاجات حملة الشهادات الجامعية العاطلين من العمل، وكانت ترتفع الأصوات ضد موجة الغلاء أو بهدف تكريس مبدأ المناصفة بين المرأة والرجل، أو للتضامن مع معتقلين. غير أنها المرة الأولى التي يتخذ فيها التظاهر ضد إهانة الكرامة مثل هذا البعد الذي يعكس تنامي الوعي الشعبي. فقد تجبر أحداث وتطورات الناس على تغيير عاداتهم وأفكارهم وعلاقاتهم مع المحيط الأقرب والأبعد. لكن لا شيء يمكن أن يفرض عليهم التخلي عن الكرامة التي هي تاج لا يراه إلا الذين يعانون من الاستبداد والاستعباد. فهذه القضية الوحيدة التي لا تحتمل أي جدل.
لم يكن الاحتجاج ضد هيمنة مصالح اقتصادية أو تجارية، بل كان ضد سلوكيات تنطلق من أفكار خاطئة حول علاقة المواطن بالسلطة، أكانت قضائية أو اشتراعية أو تنفيذية، إذ يتم إلغاء جوهر الإنسان المرتبط بكرامته وغيرته وشرفه، ويترتب عن ذلك إلغاء حقوقه ومكاسبه وقيمته الإنسانية، ومن الطبيعي أن تنمو مشاعر الازدراء إزاء ممارسات تحتقر الكرامة. والأكيد أن من بين أسباب هذا التنامي بروز نظرة ضيقة للفضاءات والمدن، حين يتصور موظف أن في إمكانه، نتيجة بعده عن المدن الكبيرة والعاصمة تحديداً، أن يستبيح كل شيء.
لا يهم إن كان الحادث معزولاً. فقبله اندلعت قضية تطاول تعذيب خادمة من قبل قاض وزوجته. ومنذ سنوات عرفت بلدة صغيرة في الأطلس المتوسط حادث رجل سلطة حلق شعر امرأتين. وفي كل مرة كانت تقابل هذه السلوكات بالمزيد من الرفض والإدانة. لكن المسألة تزيد عن الطابع الشخصي نحو ممارسات صادرة عن عقليات لا تزال تحلم بعصر استعباد الناس. واحتاجت الحكومة المغربية إلى المزيد من الفواصل الإعلانية لحض الناس على التوجه إلى القضاء، ضمن خطة الحرب على الرشوة، بل إنها أقرت إجراءات لا تعتبر من يقدم شكوى بهذا الصدد مشاركاً في الارتشاء.
وهناك حاجة الآن إلى حملات أكبر لتنبيه الذين يتحملون المسؤولية في أي قطاع أن كرامة المواطنين فوق كل اعتبار، وأن العدالة الاجتماعية الحقيقية تبدأ من تغلغل الشعور بالمساواة أمام القانون. وإذ يتزامن اندلاع هذه القضية المثيرة مع استمرار الحوار حول إصلاح منظومة القضاء، فإن ذلك يعتبر حافزاً لمراعاة القيم التي يجب أن تنطبع بها العلاقات بين المواطنين والقضاء، بخاصة أنه الملاذ الأخير في طلب الإنصاف.
إذا كان ما يعرف بالربيع العربي قد طاول إطاحة أنظمة استبدادية وما زال يراوح مكانه في البحث عن المزاوجة بين الديموقراطية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الإقصاء والاستئثار بالسلطة، فإن الأهم أن يطاول العقليات التي تعشش فيها أفكار خاطئة ومتجاوزة، إذ يتصور من يتحلى بالمسؤولية أن لا شيء يحول دون فرض نزواته على الآخرين. وهذه مسألة تربوية ذات أبعاد ثنائية، كون التغيير الذي لا يرسو على شراع تغيير العقليات يظل ناقصاً. وإلا كيف يتصور أي مسؤول مهما علت درجته أو انخفضت في درجات التراتبية الإدارية، أن في إمكانه أن يلزم مواطناً بسيطاً بتقبيل قدميه، حتى يعفو عنه.
لا يمكن الحسم في قضية من هذا النوع خارج حسم القضاء. غير أن اندلاع تظاهرات شعبية عارمة يفيد بأن القضاء يجب أن يكون إلى جانب المستضعفين، حين لا يطالبون بأكثر من صون كرامة تتعرض للإهانة. فهل وصلت الرسالة؟
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
المغرب: زعيم حزبي يعد بعدم رفع الضرائب إذا تولى الحكومة المقبلة
المغرب: لجنة نيابية تصوّت اليوم على «تقنين» القنب الهندي
المغرب يعلن عن «استقبال استثنائي» لجاليته في الصيف
سياسي مغربي: الحزب المتصدر للانتخابات لن يتجاوز 80 مقعداً برلمانياً
«النواب» المغربي يناقش «تقنين زراعة القنب الهندي»
مقالات ذات صلة
الانتخابات المقبلة وضعف النقاش السياسي في المغرب - لحسن حداد
استياء مغربي من «تهجم على الملك» في قناة جزائرية
الجميع مستاء وسؤال المستقبل مطروح على المغرب - انتصار فقير
عن أزمة النخب السياسية في خطاب العاهل المغربي - بشير عبد الفتاح
الحركات الاحتجاجية المُطالبة بالتنمية تُوحَّد بين البلدان المغاربية - رشيد خشانة
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة