الخميس ١٧ - ٧ - ٢٠٢٥
بيانات
التاريخ:
تموز ١٢, ٢٠١٢
المصدر:
جريدة الحياة
قراءة في تحوّلات «الربيع العربي» - مرزوق الحلبي
يتأكّد لنا الآن بعد أكثر من عام على انطلاق التحولات في الأقطار العربية أن القراءات، مهما تكن حكيمة وذكية، لن تكفي لفهم الأحداث ومفاعيلها أو تحديد وجهتها. ومع هذا فإن القراءات تزوّدنا بأدوات حفر وتفكيك وبناء من جديد تؤلف مجتمعة فعل العقلنة الضروري. ويقيناً أن هذه القراءات تظل في أساس التفكير والتخطيط الاستراتيجي لمواقع صنع السياسات والقرار التي تسعى من مواقعها إلى الإمساك بخيوط الأحداث وفهمها في أقل تقدير وإلى التحكم بها والتأثير فيها كحدّ أقصى تستدعيه المصالح أو الأهداف.
بدأ «الربيع العربي» من حلقة المطالبة بالحريات السياسية والكرامات الإنسانية، أولى حلقات الحقوق المدنية في الدولة الحديثة. وعلى رغم أن مُحركي هذا الربيع جاؤوا من الفئات الوسطى ذات الفكر اليساري الليبرالي إلا أنها انحكمت في امتحانها الأول - الانتخابات - لمنطق القوة الانتخابية وهي قوة تحصّلت للإسلاميين أكثر من غيرهم. وقد رأينا ذلك لوجود محورين بانيين لهذه القوى، الأول: تلك المعارضة السياسية للحكم التي تشكل شرعية لهذه القوى. والثاني: تلك المعارضة الهويتية الثقافية للغرب. وبينهما محاور أخرى مثل الإيمان الديني كبديل عن الفكرة السياسية المُخفقة مثل الدولة والقومية والاشتراكية والحزب والإيديولوجيا وكون هذه الحركات دول ظلّ داخل الدول من حيث تنظيمها ومقدراتها ومواردها المالية التي تحولت لعقود إلى نظام رفاه اجتماعي وشبكة أمان بديلة لما أخفقت الدولة في توفيره. هذا فيما ساعدتها تلك الهجرة الجماعية للعقول والأدمغة والإنتلجينتسيا العربية «الطوعي» والقسري إلى المنافي الأمر الذي ترك المجتمعات بين قوتين: السلطة ومؤسساتها والجامع ومؤسساته. ومن هنا ميل بعض الكتاب المشاركين في الكتيّب إلى النظر إلى الربيع العربي كأنه متدحرج حتماً إلى «خريف إسلامي»!
أحداث بدأت بتقويض النظام العربي الذي قام بعد اتفاقية سايس بيكو ورحيل الاستعمار لكن من السابق لأوانه معرفة وجهتها النهائية وخط سيرها. ومن أوجه الصعوبة أن قيادات التحركات الشعبية لم تكن معروفة - وفي غالبيتها شبابية - وليس لها أيديولوجيا واضحة أو معلنة كما يعرف الآن. وهو ما يصعّب أيضاً التنبؤ ويفتح باب التقديرات والتخمينات. لكن تظل في حقل الاجتهاد والتفكير والتحليل مؤشرات على جدّية التعامل العربي والغربي مع أحداث الربيع العربي. وهو تعامل تحوّل إلى مفردات بحثية غير انفعالية ولا عصبية تحكمها أفعال العقول لا الميول والرغبات، كما كان في الأشهر الأولى من «الربيع» المذكور حين طغى حديث الأماني العراض وإسقاط الرائع المتمنى على الحدث. وهي الأفعال التي ينبغي أن تكون في صلب كل تفكير استراتيجي أو تحليل استراتيجي لأحداث بحجم «الربيع العربي». جدية تعكس مسؤولية في التأويل والتفكيك باعتبارهما من نوع الأفعال التي ينبغي على قيادة كل دولة أو شعب أن تضطلع به لغرض استعادة زمام المبادرة أو الإمساك بحركة التاريخ وإن تعرضت للزلزال كما تجسّده أحداث الربيع العربي.
اللافت أن غالبية قراءات تحولات «الربيع العربي» تتم بأدوات الدولة القومية وسوسيولوجيتها وما تفتق عنها من مفاهيم أمن قومي ومجال حيوي ومنظومات دولية وإقليمية ومواقع نفوذ. وهو أمر يبدو طبيعياً في ظل المرحلة السابقة في العلوم السياسية التقليدية وما أعقب اتفاقية وستفاليا بخصوص الدولة القومية الإقليمية. لكننا نقترح منهجية أخرى لرؤية الأمور تتعدى هذا المنظور إلى علوم العولمة وضعف الدولة القومية وسيطرتها وسيادتها وأمنها وإمكانية تفككها إلى دويلات أو كيانات أصغر يحميها نظام العولمة، هذه المظلة التي تبدو الآن مستعدة لقبول لاعبين غير الدولة القومية المعهودة. وقد تكون المنطقة العربية المرسومة بقلم الاستعمار القديم ومصالحه سيتفكك في المرحلة المقبلة بأيدي شعوب عافت الحدود المرسومة والأنظمة التي كرّستها مصرّة على رسم الحدود على إيقاع جديد وبألوان أخرى غير القومية. أما الرمال العربية فهي في أوج تحركها وحبلى بمشهد قد يكون مغايراً كلياً لما عهدناه أو لما أراده مُحدثو الثورات أو قوى الثورة المضادة. وهنا قد نكون بحاجة ماسة إلى أدوات أخرى للقراءة والتعامل. أو أن العالم سيضطر إلى إنتاج لغة جديدة للتعريف.
ليس مبالغة أبداً إذا قلنا باحتمال نشوء دولتين في «القُطر» السوري مثلاً أو في لبنان. أو بنشوء اتحادات بين دول عربية ـ أنظر فكرة الاتحاد الخليجي مثلاً. كأن المجتمعات العربية عادت إلى مربعاتها الأولى، إلى حالتها الخام، إلى هيولتها لتبدأ التشكّل من جديد في صور وكيانات لم نعهدها من قبل فلا يُمكن تسميتها الآن ولا تكفينا أدوات المعرفة والحفر المعرفي المتوافرة لنا لنُمسك الأحداث ونعقلها وهذا ما تُغفله القراءات في غالبيتها وإن كانت في منتهى الجدية وتعكس جهوداً حقيقية للإمساك بالربيع العربي المتحول أمام أعيننا إلى «خريف إسلامي» متوتّر! وقد يكون من اللازم أن نبدأ من جديد في تفكيك الإسلام السياسي ذاته وتسميته من جديد بعد تداعي اللغة ومنظومة الدولة القومية. فحتى الآن رأينا هذا الشق من السياسة بمنظار الدولة القومية لكن ماذا لو تحوّل مفهوم «أمة الإسلام» أو «الأمة الإسلامية» من مجرّد أنتربولوجيا دينية أو لغة متقادمة إلى لغة سياسية حية ساعية إلى التحقق على الأرض بدل الدولة القومية!
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة