الخميس ١٧ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: حزيران ٣, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الديموقراطية العربية تكتسب زخماً لكنها هشّة جداً - سمير مقدسي

أدّت الثروة التي تولّدها الاحتياطات النفطية في بعض البلدان العربية، فضلاً عن التشنّجات الداخلية والنزاع العربي-الإسرائيلي، إلى بقاء الحكومات الاستبدادية في السلطة لسنوات كثيرة. هذه العوامل سوف تُبقي الديموقراطيات العربية الحديثة العهد هشّة جداً.

 

من أجل تقويم الاضطرابات السياسية التي أعقبت الانتفاضة التي شهدتها كل من تونس ومصر العام الماضي، يجب فهم الأسباب التي تقف وراء استمرار الأنظمة الاستبدادية في المنطقة في الحكم لفترة طويلة جداً. السؤال الأساسي الذي يُخيّم الآن فوق العالم العربي هو ما إذا كانت المنطقة بأسرها تتّجه نحو الديموقراطية، أم إذا كانت الأنظمة شبه الديموقراطية هي أفضل ما يمكن الطموح إليه.
لقد استُخدِم الدين والمتغيّرات الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية المتنوّعة لتفسير أسباب استمرار الأنظمة الاستبدادية العربية على نطاق واسع، في حين أن مناطق نامية أخرى حول العالم تتقدّم نحو الديموقراطية. لدى النظر إلى المنطقة ككل، يتبيّن أن عاملَين اثنين يكمنان خلف ترسيخ القبضة السلطوية للأنظمة الحاكمة: العامل الأول هو الموارد المالية الهائلة للبلدان العربية الغنية بالنفط والتي أتاحت المقايضة بين الرفاه الاقتصادي والحرّية السياسية، وتأثيراتها الممتدّة في البلدان غير النفطية مما ساعد تلك البلدان على الإبقاء على أنظمتها الاستبدادية.


العامل الثاني هو النزاعات الإقليمية، ولا سيما النزاع العربي-الإسرائيلي الذي أمّن للأحزاب أو العائلات الحاكمة ذرائع متعدّدة لتبرير قبضتها على السلطة. ومن هذه الذرائع خطر  التهديدات الخارجية وصعود الحركات الأصولية الدينية. لكن على الرغم من أن المسألة الفلسطينية التي لم تلقَ حلاً بعد لا تزال تعطّل التقدّم نحو إرساء ديموقراطية فعلية في المنطقة، يبدو أن هذه الحجج التي تُستخدَم لتبرير السلطة الاستبدادية تضعف.


أتاحت بعض البلدان العربية غير النفطية تحريراً سياسياً محدوداً في الأعوام العشرين الماضية، لكن أنظمتها حافظت حتى الآونة الأخيرة على القوّة الكافية لإحباط أي خطوات في اتّجاه إرساء ديموقراطية حقيقية. أما الآن فيبدو أن الانتفاضة في كل من تونس ومصر مهّدت الطريق أمام إمكان حدوث تحوّل ديموقراطي في المنطقة العربية في المستقبل المنظور.


وقد تبعت هاتين الانتفاضتين احتجاجاتٌ حاشدة و/أو انتفاضات مسلّحة في البحرين وليبيا واليمن وسوريا. في حالة ليبيا، أدّى التدخّل العسكري الغربي دوراً حاسماً في إطاحة نظام القذافي، في حين أن التدخّل العسكري السعودي في البحرين لعب دوراً أساسياً في الإبقاء على النظام. وفي اليمن، انتُخِب رئيس جديد بعد فترة مطوّلة من الاحتجاجات الحاشدة التي ترافقت مع مواجهات مسلّحة من حين لآخر، مع العلم بأن المصالحة الوطنية لم تتحقّق بعد. وفي سوريا، تحوّلت التظاهرات السلمية الحاشدة ضد النظام مواجهات مسلّحة لا نزال نجهل عقباها.


وهناك تحرّكات مدنية في أماكن أخرى، أبرزها في الأردن والمغرب، لكنها لم تطلق بعد تغييرات سياسية جوهرية. وحتى الآن، لم تشهد البلدان الغنية بالنفط في الخليج تحرّكات جماهيرية تُهدّد الأنظمة الاستبدادية، لأسباب عدّة ليس أقلّها إيراداتها النفطية.


صحيح أن الأحداث في تونس ومصر لم تحدث بعد تحوّلاً في المنطقة العربية بأسرها على المستوى السياسي، إلا أنه يُتوقَّع أن تضعف أكثر فأكثر أسس الأنظمة السلطوية العربية في المستقبل المنظور ولا سيما في البلدان غير النفطية. هناك ثلاثة عوامل على الأقل تُحرّك الأمور في هذا الاتجاه، وثمة عامل رابع سيمارس على الأرجح تأثيراً كبيراً في هذا الإطار.


بدايةَ، يُسجَّل تراجع الدور الاقتصادي للدولة. لقد ارتفعت البطالة كثيراً، ولا سيما في أوساط الشباب العرب، إذ بلغ معدّل البطالة بينهم 25 في المئة في الفترة 2005-2010، وتفاقم بفعل عمليات الخصخصة خلال الأعوام العشرين الماضية. لقد فشل التحوّل نحو مؤسّسات السوق في استحداث الوظائف التي كانت الدولة تضمنها سابقاً ولو بطريقة غير فاعلة. وساهم هذا بدوره في إضعاف المقايضة السلطوية التي تلجأ إليها الأنظمة وتقوم على توفير الرفاه والامتيازات الاقتصادية في مقابل الحرمان من الحقوق والمشاركة السياسية. لقد أظهرت الانتفاضتان التونسية والمصرية أن مستويات البطالة المرتفعة يمكن أن تشكّل عنصراً قوياً في حشد المعارضة للأنظمة الاستبدادية الحاكمة.


كما ساهم تراجع الدور الاقتصادي للدولة في البلدان العربية في تعزيز نمو المنظمات المدنية المستقلة التي لطالما ضغطت من أجل تحقيق الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وتمكينها. وقد حاولت الطبقات الحاكمة في الدول العربية التصدّي لهذه النزعة عبر استمالة رجال الأعمال والنخب الفكرية، وكذلك عبر بناء شراكات بين المسؤولين الحكوميين الكبار ورجال الأعمال الأثرياء.


العامل الثاني هو الانفتاح الأكبر للمجتمعات في المنطقة العربية على العالم الخارجي. ففيما تتطوّر البلدان العربية وتصبح أكثر انفتاحاً في الداخل وأكثر اندماجاً مع العالم الخارجي، لا تضعف المقايضة السلطوية وحسب، بل تتضاءل أيضاً قدرة الطبقات الحاكمة على الاستمرار في زرع الانقسام بين الأحزاب والمجموعات المعارضة أو إبقائها تحت السيطرة. والمنظمات المدنية، بما فيها تلك التي يديرها الطلاّب، تنتهز أكثر فأكثر الفرص للضغط من أجل تحقيق تغيير سياسي. وهكذا تشهد الأنظمة الاستبدادية العربية على تزايد المطالب التي يرفعها المحرومون والمجرَّدون من حقوقهم. وقد أظهر نجاح التعبئة الجماهيرية في تونس ومصر أنه حتى الأجهزة الأمنية النافذة التابعة للدول الاستبدادية لا تستطيع كبح التحرّكات الحاشدة التي تطالب بإجراء تغيير سياسي جوهري، حتى عندما تكون الكلفة خسائر كبيرة في الأرواح. ومن العوامل الكامنة خلف انتفاضات الشباب العربي الإدراك المتزايد بأن الأحزاب السياسية الإصلاحية التقليدية أثبتت عجزها عن إحداث تغيير سياسي.


العامل الثالث هو التأثير الممتدّ للتغيير الديموقراطي الذي شهدته بلدان نامية أخرى. فقد امتزجت سلطة الإنترنت في تعبئة الاحتجاجات الحاشدة مع الحرمان السياسي والاقتصادي، وارتفاع البطالة، والرغبة في المشاركة السياسية الأكبر، فانطلقت تحرّكات جماهيرية تطالب بالتغيير.


لكن تسوية النزاعات الإقليمية، ولا سيما المسألة الفلسطينية، تبقى من العوامل الأساسية لتحقيق التغيير في العالم العربي. فهذه النزاعات تتسبّب منذ وقت طويل بنمو الحركات الدينية الأصولية، وتستقطب التدخّلات الخارجية المزعزعة للاستقرار، وبدلاً من تخصيص الموارد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تُنفَق على الأجهزة العسكرية والأمنية التي تقوم وظيفتها على إبقاء الأنظمة الاستبدادية في الحكم. ولذلك من شأن تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية أن تولّد بيئة إقليمية سوف تثبت حكماً أنها أكثر مؤاتاة لانتشار الديموقراطية. ومن المنطلق نفسه، من شأن المسألة الفلسطينية، إذا ظلّت من دون تسوية، أن تؤدّي إلى انحراف عملية الدمقرطة في المنطقة العربية عن مسارها الصحيح.

 

خبير اقتصادي في الجامعة الاميركية في بيروت - وزير الاقتصاد سابقا

ترجمة نسرين ناضر



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة