من يُمعن النظر في ما آلت إليه الثورة المصرية وهي مقبلة على طي صفحة عامها الأول، يجد مشاهد متتابعة تلخص جوانبها المترعة بأحداث متلاحقة، ووقائع متناثرة، وآمال عريضة وإحباطات موجعة، وإصرار على إكمال الرحلة... تقابلها رغبة في إطفاء وهج الثورة وتبريدها و «شيطنتها» وإعادة إنتاج النظام القديم مع تغيير الوجوه وبعض إصلاحات تجميلية لا تفي بمطالب الثوار التي حملها الشعار الأثير: «عيش... حرية... كرامة إنسانية».
ولنبدأ من الختام، وهذا المشهد الانتخابي المعبر، الذي على رغم الملاحظات والانتقادات التي تلاحقه، يعني أن الشعب المصري امتلك حق الاختيار وحريته، لذلك بات يمتلك القدرة على تنقيح اختياره وتصحيح مساره. المشكلة الموجعة هي أن طوابير النساء أمام اللجان الانتخابية أطول بكثير من طوابير الرجال، لكننا لا نجد امرأة تنجح في السباق. المشهد الثاني هو ذلك التنازع بين الميدان والبرلمان. ويظن المتعجلون أن «البرلمان» و «الميدان» أمران متناقضان، والواقع أنهما مساران متعانقان، لا غنى لأحدهما عن الآخر، شرط أن يؤمن مَنْ ينوب عن الأمة بأن الشعب اختاره ليكمل طريق الثورة لا أن ينضم إلى الثورة المضادة، ويؤمن مَنْ يعتصم من الغاضبين بأن الثورة في حاجة ملحّة إلى مؤسسات تدافع عنها، ليبقى «البرلمان» مساراً و «الميدان» ضميراً.
المشهد الثالث هو حكومة الجنزوري التي يمكن أن يقال عنها بكل وضوح: وزراء بلا صلاحيات هم مجرد «أسماك زينة» أو رهائن جدد عند صاحب السلطة، ولا أمل ولا خير في رجل يتولى مصالح الناس وهو مجرد من أي قدرة على اتخاذ القرار، وليس أمامه سوى البقاء إلى جانب هاتفه في انتظار الأوامر. هذا عار بعد ثورة أريقت فيها دماء زكية من أجل الحرية.
اسلاميون أمام تحدي إكمال الثورة أما المشهد الرابع فيكمن في هذه المساحة الفاصلة بين مَنْ يدفع الثمن ومَن يحصد الثمار. إذ فقد أحمد حرارة نور عينيه من أجل أن يدخل حزب «النور» إلى دنيا السياسة من أوسع الأبواب. وفقد علاء عبدالفتاح حريته ليتقدم حزب «الحرية والعدالة» على ما عداه. ولا بأس، هنيئاً للإخوان والسلفيين ما حصدوا، وأعانهم الله على التركة الثقيلة التي خلّفها حسني مبارك، وعلى تكليف الشعب لهم باستكمال الثورة. والمهم ألا ينسى من فاز، في غمرة الانتشاء بالنصر، حق أمثال حرارة وعبدالفتاح وثأرهم، وأولئك الذين هدموا الجدران وفتحوا أمام الذاهبين إلى الجلوس على مقاعد البرلمان طريقاً إلى التمكن.
المشـــهد الخــامس يدور حول السجال الديني الذي سبق الانتخابات وتخللها وسيعقبها. والإسلام لم ولن يكون محل تنازع بين المصريين، فحتى المسيحيون الشرقيون ديانةً هم مسلمون ثقافةً وغالبيتهم تقر بذلك وترى في اعتراف الإسلام بالأديان السماوية السابقة عليه نقطة التقاء يجب تعزيزها. والإسلام، دين عظيم ليس حكراً على أحد ليتكلم باسمه ويحتكر خطابه، وكثـــيرون ممن ينتقدون أو يتحفظون على أداء مَنْ يتخذون الإسلام أيديولوجيا لهم، ليسوا خائفين من الدين بل خائفون عليه، لكن الصورة لا تصل هكذا إلى غالبية الناس، أو العوام، ومن ثم يظل استغلال الدين قائماً في المشهد السياسي بطريقة فجة.
المشهد السادس هو ذلك النزوع إلى ما يسمى «الاستقرار» أو وفق التعبير المصري الدارج «هدوء الحال». وبديهي مبدئياً أن لا أحد يكره الاستقرار والأمن والسكينة، لكن الاستقرار الحقيقي هو الذي يرسخه وضوح الرؤية والشعور العام بالعدل والاطمئنان إلى مستقبل الحرية والتنمية، وليس ذلك المفروض بيد القوة الباطشة. ولا يمكن احداً أن ينسى أن نظام مبارك حكم مصر نحو ثلاثين سنة باسم «الاستقرار والاستمرار»، فحوَّل الأول إلى جمود والثاني إلى قعود دائم في الحكم. ويجب ألا نتجاهل هنا خبرة التاريخ التي تعلِّمنا أن «الاستقرار» لطالما استخدم كمصطلح سحري للثورة المضادة. ومن يمعِن النظر في ما يجري، لا يمكنه القول إن أحد عشر شهراً من التظاهرات مسؤولة عن الارتباك الأمني وغياب الاستثمارات وهروب السياح، بل المسؤولية تقع على مَن بيده السلطة، لأنه جعل مستقبلها غامضاً، ولا يوجد مَن يضخ أمواله في بلد لا أحد يعرف على وجه اليقين إلى أن يذهب.
مهمة المجلس الاستشاري ويتعلق المشهد السابع بإنشاء مجلس استشاري يعاون المجلس العسكري في الحكم، ويمكن أن يكون مجرد شرفة يطل منها «العسكري» على الحياة المدنية، بعيون أكثر جرأة. ويمكن أن يكون قناة وصل بين حالتين سياسيتين، أو مسرباً آمناً لخروج الجنرالات من الحكم تدريجاً. ويمكن أن يتحول عربة يرتادونها بديلاً من عربة البرلمان التي تعاني أصلاً من «عيوب في التصنيع». الخيار الأسوأ هو أن يصبح المجلس الاستشاري جداراً يختبئون خلفه ليدبروا بليل ما عجزوا عن تدبيره في النهار.
المشهد الثامن يتعلق بالتخبط المستمر في أقوال كبار المسؤولين في الدولة. وقد يكون هناك تضارب حقيقي في تصريحات أعضاء المجلس العسكري، ناجم عن تقويم أو تقدير شخصي لكل منهم لما يجري. وقد يكون هذا توزيع أدوار محسوباً بدقة من مؤسسة تقوم أساساً على «الضبط والربط»... أحدهم يطلق بالونات اختبار، فإن جاء رد الفعل مسكوناً بنار الغضب يتدخل آخر لإطفاء الحريق. وقد يكون هناك جناحان داخل المجلس في إدراك طبيعة دوره السياسي الآني والآتي. وأياً تكن الحال، على المجلس ألا يضيق ذرعاً بردود الفعل مهما كانت حادة، ولا بالنقد مهما كان لاذعاً، طالما هو مصر على أن يبقى في «مستنقع السياسة» ولو موقتاً.
والمشهد التاسع يرتبط بالعراك حول الدستور، والذي بدأ منذ صوتت الغالبية بـ «نعم» لتعديلات دستورية محدودة في آذار (مارس) الماضي. وينسى كثيرون في غمرة التجاذب أن الدستور الذي تنفرد الغالبية بوضعه، ستعدّله أو تستبدله غالبية لاحقة. لذا، الأفضل أن تشرع القوى السياسية كافة، بصدر رحب وعقل مفتوح، بالتوافق حول دستورنا المنتظر، شكلاً ومضموناً. ولتضع في حسبانها أن الدستور الحقيقي والراسخ والعصري هو الذي يقرأه المواطن، أياً تكن طبقته أو ديانته أو عرقه أو لهجته أو أيديولوجيته أو نوعه، فيشعر كأن الدستور كُتب خصيصاً لحماية حقوقه، وصون كرامته، والدفاع عن مصالحه.
«اختلاء» العسكر بالثورة أما المشهد العاشر فيتمثل في علاقة العسكريين بالمسار الثوري. وكما تبيّن التجارب الإنسانية، ما اختلى «عسكر» بـ «ثورة» إلا وكان الشيطان ثالثهما، وما انفرد بها «فلول» على اختلاف ألوانهم وأصنافهم إلا واغتصبوها. والمشكلة أن أداء المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية التي تحولت إلى ما يشبه «المرحلة الانتقامية»، جعل كثيرين يضعونه في خانة «الفلول»، ويتهمونه بقيادة الثورة المضادة، أو بتسليم البلاد إلى قوة لم يترسخ إيمانها بالديموقراطية بعد.
إن السلطة الذكية هي التي تدع المستقبل يولد على أكف الحاضر، من دون عنت ولا عناء، أما الغبية فتتباطأ وتراوغ وتتجبر حتى يؤخذ منها كل شيء عنوة، فتنقضي وتسقط وتصبح نسياً منسياً. وبعد سنة من الثورة، هناك قطاعات عريضة باتت تقول إن الموجة المقبلة في الثورة المصرية السلمية لن تجعل على أرض النيل من الظالمين المستبدين الفاسدين دياراً، وأنه يجب ألاّ يعتقد الواهمون بأن الثورة انقضت، ورست على شاطئ النهاية، بل هي الآن تلفظ خبثها، وتفصل بين المؤمنين بها والرافضين لها وتعرّي المنافقين، ثم تعود نقية جلية كماء هادر. لكن الحكم على صدق هذا التوجه وتلك التوقعات، يحتاج عاماً آخر للثورة، بات على الأبواب.
* كاتب مصري
|