أحد الأسباب الكثيرة التي أدت إلى تسمية «الربيع العربي» بالثورة هو أنه يتيح المجال لعدد من الثورات المختلفة التي تأثرت بالتجربة التاريخية للبلد الذي اندلعت فيه. كما أنه يسمح باستخلاص العبر من الماضي الوطني الذي يحتل أهمية كبرى في ما يتعلّق بإعادة إدخال نوع من الديموقراطية التعدّدية التي كانت قائمة قبل قيام الأنظمة الاستبدادية في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي الماضي كما اليوم كانت هناك مراحل صعبة رافقتها عملية تعلّم سريعة يمكن أن تقدّم إشارات إلى المستقبل القريب.
سأتطرّق إلى تاريخ السياسة المصرية في السنة التي تلت انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 1923 التي أدت إلى قيام نظام حزبي تعددي، مع حزب الوفد برئاسة سعد زغلول كمكون أساسي. وإذا نظرنا إلى هذا النظام اليوم يمكن رصد مسائل عدة: أولاً التخوف من النظام الانتخابي الذي يخدم مصلحة مجموعة معينة على حساب أخرى. فمع انتهاء الانتخابات الأولى أخذ زعماء الحزب والمحللون يفكرون في كيفية تعديل النتائج، ما أدى بناخبي الوفد في آب (أغسطس) 1924 إلى إدخال نظام انتخابات مباشرة وفتح مجال التصويت للرجال البالغين 20 سنة وما فوق، وفي السنوات القليلة المقبلة اتخذ المعارضون إجراءات للتضييق مجدداً على خيارات الناخبين وتعديل حدود الدوائر الانتخابية.
وللأسف قدّم الأوروبيون، لا سيما البريطانيون، أمثلة عدة على كيفية القيام بذلك ما أصبح عقبة ونتيجة رد الفعل على الخطر الذي بدا أنّ الديموقراطية الشعبية تفرضه على الحريات التي كانت تتمتع بها النخبة. ومن بين العواقب المباشرة هي الترخيص الذي أعطاه المفكرون الليبراليون البريطانيون في ما يتعلّق بالمؤهلات المطلوبة للتصويت: شروط تعليمية مثل حسن القراءة والكتابة وإمكانات اقتصادية، مثل تملك عقار أو دخل سنوي وقد تمّ فرض هذه القيود على القوانين المعدلة بداية عام 1925.
أما التجربة الثانية في بداية القرن العشرين فهي مشكلة بناء التحالفات، كما ظهرت في الخلاف بين سعد زغلول وهدى شعراوي التي كان تخليها عن الحجاب بعد عودتها إلى مصر من مؤتمر أوروبي عام 1923 هو أحد الحوادث البارزة بداية أيام الحركة النسائية المصرية. فشعراوي التي كانت تنتمي إلى حزب الوفد لم تقف فقط ضد زغلول حين أبعد نفسه عنها من اجل تحسين علاقاته السياسية مع مؤيديه التقليديين، بل بدأت بمهاجمته بسبب رغبته في التسوية مع بريطانيا حول حق مصر في السيطرة على السودان.
وتأخذنا أحداث من هذا القبيل إلى قضية ثالثة لها صدى عصري، وهي الصورة التي يوفرها وضع دستور جديد ونظام انتخابي مقبول عن طبيعة المجتمع المصري وناخبيه الطبيعيين. فهذه الصورة موجودة في القرن الحادي والعشرين من خلال الدور الذي يعتبر انه للزعماء الطبيعيين للمجتمع. وبعد الانتخابات هناك مجموعة من المسائل الجديدة مثل طريقة تكليف المرشحين الناجحين (على صعيد المصاريف الانتخابية) من خلال تقديم مكافآت إلى ناخبيهم نقداً. فيما الاتهامات للخصوم بالفساد باتت جزءاً طبيعياً من العملية السياسية.
لا شك في أن مصر اليوم مختلفة عما كانت عليه منذ عقد مع شعب أكبر وأكثر ثقافة. لكن ثمة أمراً يتعلق بالانتخابات الشعبية وبالعملية التمثيلية التي تبقى متشابهة وتسمح بالقيام بمقارنات اختيارية ومفيدة كدليل للتحرك في المستقبل. فالتحذير الأكثر خطورة هو ذلك الذي يتضمن الرغبة في التغيير الموقت في الترتيبات الانتخابية والدستورية لتلبية مصالح جزء من الناخبين الوطنيين. وإذا كانت الديموقراطية ستنجح فيجب أن تقوم على العدل وأن يشعر الجميع أنهم جزء منها وأنهم مستعدون للمشاركة فيها. قد يكون العلاج في جعل الدستور والترتيبات المتعلقة بتطبيقه عامة وبسيطة قدر الإمكان، كما الحال بالنسبة إلى الدستور الأميركي، الذي يترك أمر تفسيره للمحكمة العليا. كما يمكن إدخال نص يمنع تعديل المواد الدستورية بعد إقرارها، خلال فترة لا تقل عن خمس سنوات.
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
|