الأحد ١٨ - ٥ - ٢٠٢٥
بيانات
التاريخ:
تشرين الثاني ١٧, ٢٠١٨
المصدر:
جريدة النهار اللبنانية
تحية لسمير أمين الذي صحّت توقعاته - بطرس لبكي
1- معرفتي بسمير أمين وإنتاجه العلمي
عام 1965 تعرّفت على اسم "حسن رياض" وهو الاسم المستعار لسمير أمين في كتابه: "مصر الناصريّة" الصادر في باريس عام 1964. وهو كتاب كتبه سمير أمين عندما كان يعمل في إدارة التنمية المصرية في أواخر خمسينات القرن الماضي، يتضمّن مسحاً إحصائياً دقيقاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأرياف المصرية وتحليلاً موثقاً عن القطاعات المدينية وأهمّ المجموعات التي تكوّنها في مجالات الصناعة والتجارة والمصارف والنقل والتأمين. وينتهي الكتاب بخلاصة تعتبر النظام الناصريّ في مصر "برجوازياً صغيراً ملحقاً بالبرجوازية الامبريالية الغربية"...
دُهشتُ بهذا الاستنتاج ولم أتعرّف على سمير أمين إلاّ في 1966 و1967 عندما كنتُ أعمل كباحث في معهد العلوم الاقتصادية التطبيقيّة في باريس الذي كان يترأسه العلاّمة الاقتصادي الفرنسي فرنسوا بيرّو (François Perroux) والذي اشرف على أطروحة سمير أمين آنذاك التي ناقشها في جامعة باريس عام 1957. وكان سمير أمين آنذاك قد عدّل في تقييمه للنظام الناصري وذلك لأسباب عدّة منها ربّما نظراً لما كان هذا النظام يقوم به من معارضة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية ومن مساعدة للأنظمة الساعية إلى التحرّر (كاليمن مثلاً) من الهيمنة الغربية والأنظمة الموالية لها.
تابعت قراءتي لكتبه حول تجارب التنمية في أفريقيا: مالي وغينيا وغانا، وعن اقتصاد المغرب ونمو الرأسمالية في ساحل العاج وعالم الأعمال السنغالي، والصراع الطبقي في أفريقيا، والمغرب المعاصر، كلّ ذلك حتى عام 1969.
صدر أهمّ كتاب له عام 1970 "التراكم على المستوى العالمي" وهو مساهمته النظرية الكبرى في موضوع تحليل التبعيّة والتخلّف وكيفية الخروج منهما والذي كان له تأثير مهمّ في تفكيري. وبما أنني كنتُ أدرّس "اقتصاديات التنمية" و "علم اجتماع التنمية" في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، فقد طلبتُ من صديقي المرحوم المناضل المفكّر والكاتب ياسين الحافظ مؤسّس "دار الحقيقة" في بيروت التي كرّست قسماً كبيراً من منشوراتها لقضايا ما كان يُسمّى آنذاك "العالم الثالث" و"التخلّف" و"التنمية". طلبتُ من ياسين الحافظ العمل على نشر هذا الكتاب باللغة العربية في "دار الحقيقة". وقد تُرجم الكتاب ولكنه نُشر في "دار ابن خلدون"، مما أفرح سمير أمين آنذاك، لأنه كان أوّل كتاب يُنشر له باللغة العربية. لكن الحرب كانت قد اندلعت في لبنان ولم تحظَ هذه الترجمة بالرواج الذي كانت تستأهله. وفي خضمّ هذه الحرب، دعاني سمير أمين إلى ندوة دولية في مدينة نابولي في خريف 1983، وقد شاركتُ فيها. ثم انقطع التواصل بيننا حتى عام 1990، حيث شاركنا في ندوة في جامعة أكسفورد عن المغتربين اللبنانيّين في أفريقيا ثم إلى عام 2004، حيث عدنا والتقينا في "ندوات العالم الثالث من أجل عولمة مختلفة"، وبعد ذلك وابتداءً من 2005 في الذكرى الخمسينية "لقمة دول العالم الثالث" في باندونغ في أندونيسيا، ثم في الذكرى الخامسة والخمسين وفي "منتدى العالم الثالث" في داكار عام 2011 مع بداية ما سمّي "بالربيع العربي" وكان سمير أمين كغيره من المفكرين العرب المناضلين من المشكّكين بهذه الظاهرة. وكانوا على حق. والتقينا للمرّة الأخيرة عام 2014 في ندوة في جامعة باريس الأولى.
2- من هو سمير أمين؟
يعرّف سمير أمين عن نفسه في سيرته الذاتية المنشورة باللغة العربية بأنه ينتمي إلى عائلة من الأرستقراطية القبطية في محافظة قنا، في صعيد مصر.
ولد عام 1931. كان والده طبيباً وكذلك والدته الفرنسية. نشأ في القاهرة وفي بور سعيد حيث كان يعمل والده كطبيب لدى شركة قناة السويس. وقد درس في الليسيه الفرنسي في القاهرة ثم في باريس وانتسب بعد ذلك إلى معهد العلوم السياسية في باريس وتخرّج منه عام 1952. وانتسب إلى المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية وتخرّج منه عام 1956 وتخرّج من كلية الحقوق والاقتصاد في باريس عام 1957 حيث نال منها شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية. وأثناء دراسته في فرنسا، انتسب إلى الحزب الشيوعي وما لبث أن ابتعد عنه لخلافات فكرية وسياسية. واقترب بعد ذلك من التيارات الماوية.
ولدى عودته إلى مصر وعمله في إدارة التنمية المصرية، تعرّض للملاحقة بسبب آرائه السياسية، فاضطر للهروب من الاعتقال من وطنه وذهب مجدّداً إلى فرنسا عام 1960. وزّع عمله الجامعي بين التعليم في باريس وبواتييه وفي جامعة الشيخ أنتا ديوب في السنغال، وبين العمل في معهد التنمية الاقتصادية والتخطيط الأفريقي التابع للامم المتحدة في داكار في السنغال وفي ملتقى العالم الثالث بين داكار والقاهرة.
3- مصادر فكر سمير أمين؟
انطلق سمير أمين من فكر ماركس السائد لدى دراسته في فرنسا وتأثّر أيضاً بفكر لينين الاقتصادي (في كتابيه: "الرأسمالية في روسيا"، و"الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية") وتأثر كذلك باقتصاديين ماركسيين كبول باران الاقتصادي الأميركي الشهير وكتابه "الاقتصاد السياسي للنمو"، وكذلك تأثر بكتابات ماو تسي تونغ. لكنه استقى أيضاً، وهذا ما ساهم في تمييزه، بنظريات وتعاليم العالم الاقتصادي الفرنسي فرنسوا بيرّو الذي كان له من أهمّ التحليلات عن "اقتصاد القرن العشرين" في مجال تحليل الرأسمالية الصناعية وآلياتها وديناميّتها. كذلك وبشكل رئيسي تحليلاته لاقتصادات دول "العالم الثالث" المرتكزة على ثلاث خصائص لها: تخلّع (inarticulation) الاقتصاد وعدم اندماجه وارتباط قطاعاته بالخارج أكثر مما هي مرتبطة ببعضها البعض في الداخل؛ والهيمنة (domination) أي سيطرة الدول الصناعية وشركاتها الكبرى على اقتصاد العالم الثالث؛ والفقر (“la non couverture des couts de l’homme) أي عدم تغطية كلفة مستوى إنساني للمعيشة (في مجالات التغذية والصحة والتربية والسكن والثقافة والعمالة). هذه التحليلات التي فصّلها فرنسوا بيرّو ومدرسته أثّرت في فكر سمير أمين لاسيّما أن فرنسوا بيرّو كان كما ذكرنا المشرف على أطروحة الدكتوراه التي أعدّها سمير أمين في جامعة باريس وقدّمها عام 1957. هذه التأثيرات الفكرية وعمله الضخم في تحليل اقتصاديات الدول والقارة الأفريقية والعديد من دول المشرق والمغرب العربيّين والعالم العربي ككلّ، وكذلك تحليلاته العديدة المتواصلة لبنية وتطوّرات الاقتصاد العالمي وأزماته واقتصاديات الدول الصناعية، كلّ ذلك أعطاه نظرة واقعية وتفصيلية وعيانية لتطوّر الاقتصادات والمجتمعات في مختلف دول وقارات العالم وخاصة الجنوب منه.
4- أهم محاور فكر سمير أمين الإنمائي
ينظر سمير أمين إلى التنمية كسيرورة للخروج من تخلّف الاقتصاد والمجتمع المتميّزين بتبعيةٍ للخارج وبتخلّع العلاقات الاقتصادية الداخلية على حساب ارتباط الاقتصاد بالخارج وبالفقر أي بعدم تغطية الحاجات الأساسية للحياة البشرية من غذاء وصحة وتربية وسكن وعمل. وبحسب رؤية سمير أمين، فالاقتصاد العالمي مؤلف من "مركز"، وهو مجموعة الدول الصناعية، و"أطرافٍ" وهي مجموعات دول ما كان يُسمّى "بالعالم الثالث" في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
تسيطر "دول المركز" وشركاته العملاقة على اقتصاديات "دول الأطراف" عبر تخصيصها بإنتاج المواد الأوّلية المعدّة للتصدير إلى دول المركز واستيراد الأطراف المصنوعات من دول المركز، مما يساهم في تراكم القيمة المضافة في دول المركز ويحدّ من تراكم رأس المال والنموّ في دول الأطراف. وتلعب الرساميل المتراكمة في دول وشركات المركز دوراً أساسياً في تخصيص دول الأطراف بإنتاج الخامات للتصدير عبر سيطرة هذه الرساميل على نشاطات إنتاج الصادرات من دول الأطراف وكذلك نشاطات النقل والتحويل والخدمات المكمّلة، كالخدمات المدينية وغيرها. طبعاً، لم تشمل هذه السيطرة والتبعية كلّ دول الأطراف. فاليابان "كدولة جزيرة" وبعيدة عن المركز استطاعت أن تفلت من الهيمنة الغربية وأن تبني اقتصاداً صناعياً مستقلاً وتتوسّع في آسيا الشرقية. فالتنمية بالنسبة لسمير أمين، وهي الخروج من التخلّف والتبعية، هي سيرورة تغيير متكاملة للإفلات من هيمنة الدول المركزية الصناعية والعمل بتكامل اقتصادي على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الإقليمي، لأن هذا البناء الاقتصادي يتطلّب مجالات كبرى للنجاح. وكلّ ذلك يفترض بالطبع تغيّراً ثقافياً وسياسياً. فالتنمية المستقلّة تتطلّب:
1- العمل لترابط قطاعات الاقتصاد داخل الدولة أو في الإقليم وذلك ليكون النموّ مستقلاً عن "الخارج الصناعي".
2- السيطرة الوطنية على الاقتصاد لتأمين التراكم الاقتصادي محلياً والنموّ محلياً.
3- توسيع القاعدة المحلية للاقتصاد من خلال تعميم العدالة الاجتماعية ورفع مستوى المعيشة للسكان في الداخل وخاصة في مجالات التغذية والصحة والتربية والسكن والعمل.
4- المشاركة السياسية للشعب في عملية قيادة التنمية وقطف ثمارها.
5- تحليلات وتوقعات سمير أمين العالم
في أحد أهمّ كتبه الصادرة عام 1973 بعنوان "التطوّر اللامتكافئ"، يتوقّع سمير أمين أن تبرز مراكز رأسمالية صناعية جديدة خارج المركز التقليدي الذي كان يضمّ أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وأستراليا واليابان.
وهذه المراكز الصناعية الرأسمالية التي توقّع سمير أمين بروزها هي الصين، والاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية التابعة له آنذاك، والبرازيل، والهند.
وقد تحقّقت توقعاته: فكأن الرأسمالية تُجدّد نفسها حسب توقعات سمير أمين وحسب التطوّرات التاريخية التي أكّدت صحّة توقّعاته. ولكن حيث كان سمير أمين يناضل من أجل شعوب "العالم الثالث" فإن مستويات المعيشة قد ارتفعت بكلّ المؤشرات في هذه الدول حسب كل المعطيات المتوفرة.
خبير وباحث اقتصادي
الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك
اطبع الكود:
لا تستطيع ان تقرأه؟
جرب واحدا آخر
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة