التاريخ: تشرين الأول ١٤, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
الحدود التونسية - الليبية: بين الرغبة بالأمن والحقائق الاجتماعية - الاقتصادية
الحدود التونسية - الليبية: بين الرغبة بالأمن والحقائق الاجتماعية - الاقتصادية
فريدريك ويري وكاثرين بولوك

لطالما كانت الحدود التونسية - الليبية المعبر الرئيس للإتجار غير المشروع بالسلع والبشر. وتُنفق وزارة الدفاع الأميركية، في إطار الجهود لتوفير الأمن على هذه الحدود، نحو 20 مليون دولار على مجسّات وكاميرات متطوّرة، وهو مبلغ يُسحب من صندوق مشترك أسسته الوزارة مع ألمانيا في أيلول (سبتمبر) 2017. على رغم ذلك، ومثله مثل كل الجهود التي بُذلت حتى اللحظة، لا يُنتظر أن يُعالج هذا المسعى الجديد انفلات الأوضاع المُزمن على الحدود، ولا أن يستأصل الأسباب العميقة لفقدان الأمن هناك. لماذا؟ لأن التركيز وحسب على تحصين الحدود، يقفز فوق الحقائق الاجتماعية - الاقتصادية الكامنة في تلك المنطقة، حيث لا تزال عملية عبور الحدود وسيلة عيش ومصدر رزق رئيس للسكان. لذا، سيتطلّب أي حل له حظ من الديمومة، مقاربة أوسع، تنطوي على إقامة مؤسسات إصلاحية، وتوفير فرص تنمية بديلة، ومكافحة الفساد، وترقية سياسات التجارة الثنائية.

ديناميات الحدود التونسية - الليبية

تحتل النشاطات غير الرسمية في كلا البلدين، مساحة وازنة في الاقتصاد الوطني. فالحكومة التونسية، وهي الآن شبه ديموقراطية وغريرة، لديها حافز قوي لوضع يدها على هذا الدخل، عبر منع التهريب وتحصين الحدود. لكن في ليبيا، ثمة نقص في كل من الحافز والقدرات معاً، بسبب افتقادها الوحدة السياسية، وهشاشة المؤسسات، ووجود ميليشيات متنافسة، لا بل ضارية، تتنازع السيطرة على الحدود لحصد الأرباح من التجارة غير المشروعة. والواقع، أن المسؤولين الأمنيين وشبه الأمنيين يتواطأون أحياناً في عمليات التهريب. ويمكن القول أيضاً إن الجهود الثنائية لتأمين الحدود كانت، بسبب تباين المشهد السياسي والأمني في كلا البلدين، متخلخلة، وتدريجية في أفضل الأحوال، كما يُبدي كلا الطرفين فيها مقاومة لهذه الجهود في بعض الأحيان.

يمثّل الاقتصاد غير الرسمي التونسي، وفقاً للكثير من التقارير، ما بين 39 و50 في المئة من الدخل المحلي الإجمالي، فيما يتركز أكثر من نصف النقود المتداولة في ليبيا في القطاع غير الرسمي. وبالتالي، ليس مفاجئاً أن تكون التجارة الثنائية غير الرسمية عاملاً مهماً لكلا البلدين، إذ قدّرها البنك الدولي بنحو 498 مليون دولار عام 2015، بينها نحو 200 مليون دولار للسجائر، و148 مليوناً للوقود، و150 مليون دولار لسلع أخرى. وفيما تراجع تهريب بعض السلع الاستهلاكية (الإلكترونيات والملابس والأدوات المنزلية) بين عامي 2013 و2015، كانت هناك زيادة ملحوظة في تهريب التبغ والوقود خلال الفترة ذاتها. إضافة الى ذلك، يُعتقد أن حجم الأسواق كبير: على سبيل المثال 40 في المئة من لفائف السجائر المهرّبة التي يتم استهلاكها سنوياً في تونس، تأتي من ليبيا، فيما شكّل الوقود المهرّب عبر الحدود 17 في المئة من استهلاك تونس العام 2014.

في حين يعزو البنك الدولي تراجع تهريب بعض السلع إلى التدابير الأمنية عبر الحدود، أدت سياسات تونسية أخرى، على العكس، إلى تفاقم تجارة التهريب. وما يفاقم الوضع نقص التواصل بين قوات الأمن والجيش التونسيين، إذ يُقال أن الجيش يتمنّع عن مشاطرة قوات الأمن التونسية الأخرى المعدات والمعلومات (التي يحصل عليها من مساعدات أجنبية)، ما يعيق عمل الدوريات عبر الحدود. كذلك، تُعرقل الميليشيات الليبية، التي تجني غالباً أرباحها مباشرة من التجارة غير الشرعية، جهود الحكومة الليبية في هذا الصدد.

فمنذ العام 2011، أحبطت الميليشيات المتنافسة العاملة على طول الحدود في ليبيا (يُقدّر عددها بنحو 15 ميليشيا) الجهود لتعزيز أمن الحدود، وازداد تنافسها ضراوة على أرباح التهريب، بسبب غياب وجود رد فعل موحّد من الحكومة الليبية. وأخيراً، كانت ميليشيات من بلدتي زوارة والزاوية الليبيتين المجاورتين تخوض غمار اشتباكات متّصلة للسيطرة على نقطة عبور حيوية في رأس جدير. ويعكس النفوذ المتنامي للجماعات السلفية في هذا النزاع الحدودي مدى توسّع مثل هذه المنظمات عبر القطاع الأمني الليبي، ويضيف عامل تعقيد إضافياً الى المشهد الأمني الحدودي المأزوم أصلاً.

أدى اشتباك آخر (تمثّل في هجوم اللواء أسامة الجويلي على أبو كماش، وهي بلدة ليبية قرب رأس جدير) إلى إغلاق المعابر الحدودية في كانون الثاني (يناير) 2018 لنحو 24 ساعة على الأقل، ودفع بعض مسؤولي الحدود الليبيين إلى اللجوء إلى تونس. وبعد وقف إطلاق النار وأيام عدة من المفاوضات، توصّل الجويلي وحكومة الوفاق الوطني الليبية إلى اتفاق تسلّمت بموجبه الحكومة الرسمية زمام السيطرة، لكن الاتفاق تطلّب أيضاً أن يقوم الجويلي بالمراقبة ودمج الجماعات المسلحة. بيد أن هذه التسوية لم تر النور على الأرض وأثارت توترات عميقة في الزوارة. فقد اتّهم رئيس البلدية حافظ بن ساسي الجويلي بانتزاع السيطرة عنوةً من أيدي القوات الأمازيغية في الزوارة، وتساءل عما إذا كانت حكومة الوفاق الوطني هي التي أمرت بشن هذا الهجوم. كما أبلغ الجويلي نفسه محطة إذاعة ليبية بأن هجومه كان جزءاً من خطة أوسع، لفرض «سيطرة الدولة» على طول الطريق المؤدية إلى الحدود.

ويجادل ضابط ليبي آخر، هو العميد حافظ الغالي، بأن حرس الرئاسة، وهو وحدة عسكرية مُلحقة بحكومة الوفاق الوطني، عيّنه سابقاً لحماية حركة العبور العام 2016. لكن ما يبدو مرجحاً هو أن الحادث المبهم في أبو كماش، كان محاولة فاشلة من جانب الحرس الرئاسي لاستخدام الجويلي وقواته لفرض سلطته على الحدود. وهذا يميط اللثام مرة أخرى عن مدى عمق التداعيات السلبية للمنافسات المحلية والفوضى السياسية على استقرار مناطق الحدود.

ثمة عامل آخر يفاقم الأمور هو سردية مكافحة الإرهاب المتعلّقة بفرض الأمن على الحدود، والتي مكّنت الميليشيات المحلية من تعزيز سطوتها بحجة منازلة الحركات الجهادية العابرة للحدود الوطنية. فخلال إحدى زياراتنا لمدينة صبراتة، غداة الضربة الجوية الأميركية في وقت مبكّر من العام 2016 على منشأة تدريب تابعة للدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً كان يديرها مواطن محلي من صبراتة، لاحظنا أن قائد ميليشيا يدعى أحمد الدباشي (المُكنّى بـ»العمو») حشر نفسه في خندق واحد مع عشائر وجماعات مسلحة منافسة ضد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية داخل البلدة وضواحيها. وقد ساعدته هذه الحملة على جعله القطب الأبرز لعمليات التهريب في المنطقة (إلى حين فراره في أواخر العام 2017 وتحوّله إلى هدف لعقوبات فرضها مجلس الأمن الدولي في حزيران/ يونيو 2018، بسبب تورطه في تهريب البشر). كذلك، ألقت معارك صبراتة ضد الدولة الإسلامية بظلال من الشكوك على جالية العمال التونسية المغتربة، لأن كثراً من مقاتلي الدولة الإسلامية كانوا مواطنين تونسيين.

لكن، على رغم هذه البيئة المُضطربة، لا يعتبر كثر من السكان التونسيين والليبيين القاطنين على طرفي الحدود توسّع الجهود الأمنية تطوراً إيجابياً. على سبيل المثال، قال كثر ممّن استُمزجت آراؤهم في استطلاع أُجري العام 2016 في بلدتي الذهيبة وبنقردان التونسيتين الحدوديتين، إن إحكام القيود وغياب التنمية المحلية يشكلان خطراً أكبر من الحركة الجهادية. وهذا يعود إلى أن 90.2 من السكان في بنقردان و89.6 في المئة من قاطني ذهيبة يُطلّون على الحدود بكونها مورداً مالياً.

أدى نفور السكان الليبيين والتونسيين من عمليات إغلاق الحدود وفرض الأمن فيها، إلى اندلاع احتجاجات متتالية، وتفاقم ظواهر الغضب والحنق، وصولاً حتى إلى نشوب أعمال عنف. وكما لاحظ تقرير للبنك الدولي في العام 2017، تُعتبر السلع المهرّبة والتجارة غير المشروعة في البلدات الحدودية الليبية - التونسية مورد رزق أساسياً، بخاصة في ظل صعوبة الحصول على وظائف أو موارد دخل بديلة.

في تعبير فاقع عن هذا الإحباط، عمد كثر من المحتجين التونسيين في حزيران 2018، إلى إغلاق الطريق الرئيس في بنقردان الذي تستخدمه الشاحنات لتصدير البضائع إلى ليبيا، بحجة وجود سوء معاملة في نقطة الحدود في رأس جدير، وكذلك بسبب السياسات التجارية الليبية «الظالمة». وفي تموز، حين انقلبت هذه الاحتجاجات إلى مضايقات وهجمات على الليبيين الذين يعبرون بنقردان، عمدت الحكومة الليبية إلى إغلاق الحدود، ما أشعل لهيب توترات ديبلوماسية مع تونس. ومع قدوم منتصف آب (اغسطس)، انخرطت بلديتا بنقردان والزوارة في محادثات لإعادة فتح الحدود، تمخّضت عن تشكيل لجنة ثنائية.

آخر إغلاق للحدود جرى غداة وقوع حادث مشابه في أوائل 2017، حين عرقل محتجون تونسيون العبور عبر الحدود في بنقردان، بعد جهود قام بها الليبيون للإطباق على التهريب عبر الحدود، ما خلق ما أسماه تونسيون محليون «تضييقاً على قدرتهم على ممارسة التجارة». وتُظهر أشرطة فيديو التُقطت لبعض هذه الاحتجاجات التي دامت أسابيع،2 التونسيين وهم يشعلون النار في الإطارات ويرشقون بالحجارة قوات الأمن، التي ردّت بإلقاء قنابل غاز. كما انخرط التجار في بنقردان في اعتصامات لأشهر عدة، على أمل ممارسة ضغوط على السلطات، من خلال تعليق الأعمال والنشاطات الاقتصادية. وفي محاولة لكبح جماح هذه الاحتجاجات، توصّلت سلطات الحدود الليبية والتونسية إلى اتفاق بعد خمسة أيام من المحادثات في ليبيا. بيد أن الأطراف الليبية الأخرى غير المشاركة في المحادثات رفضت بسرعة وعلناً هذا الاتفاق، مُدّعية أنه أعطى التجار التونسيين مزايا مالية كبيرة على حساب الليبيين، من خلال إضفاء الشرعية على عمليات التهريب في نقطة العبور في رأس جدير.

الحاجة إلى مقاربة أوسع

على رغم هذه الوقائع الاجتماعية - الاقتصادية الصعبة ومعها الممانعة المحلية، لم تفعل الجهود الدولية سوى التركيز في الغالب على الإجراءات الأمنية، على غرار تعزيز الحدود والإطباق على عمليات التهريب.

مثلاً، تُواصل وكالة خفض التهديدات الدفاعية التابعة للحكومة الأميركية استخدام منحة قُدِّمت العام 2016 بقيمة 24.9 مليون دولار، لإقامة نظام مراقبة أمنية إلكترونية على طول الحاجز الذي يغطّي نحو نصف طول الحدود. وفي غضون السنوات الأخيرة، كانت ألمانيا هي الأخرى تساهم في هذا الجهد، وقدّمت نحو 41 مليون دولار لتوفير أجهزة مراقبة ورصد مُتحركة. أما الحاجز الذي بنته تونس بمساعدة وكالة خفض التهديدات، فهو كناية عن نظام من المتاريس يشمل أكواماً رملية، وخنادق مليئة بالماء، وأسواراً.

إضافة إلى هذا الجهد الأميركي - الألماني، ينخرط الاتحاد الأوروبي في جانب من جهود المساعدة في مجال الأمن الحدودي. ففي 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، طرحت «بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة في إدارة الحدود في ليبيا» ورقة مفاهيمية تُحدد مقاربتها للأمن بمعناه الواسع ولكيفية إدارة الإصلاح في ليبيا. وفي 14 شباط (فبراير)، وقّع كلٌ من رئيس بعثة المساعدة، فنسنزوتا غليافيري، ووزير العدل الليبي، محمد عبدالواحد عبدالحميد، مذكرة تفاهم تُضفي الطابع الرسمي على التعاون الثنائي. هذه الاتفاقية توسّع صلاحيات بعثة المساعدة بهدف «تكريس الأسس الراسخة لحكم القانون في ليبيا»، كما تزوّدها بانتداب أشمل لمساعدة وزارة العدل الليبية وباقي الهيئات المُعتمدة عليها. وقد منح الاتحاد الأوروبي البعثة 20 مليون دولار لمدة 16 شهراً لدعم هذه الصلاحية. وفي هذه الأثناء، عقدت البعثة مع وزارة الداخلية الليبية اجتماعاً تنسيقياً لمكافحة الجريمة المنظّمة والخطيرة، بما في ذلك التهريب والمتاجرة غير المشروعة.

كان الانخراط مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية حول التهريب، وجهاً آخر من وجوه الجهود الدولية لمعالجة قضية الحدود. وكما هو معروف، مؤسسة النفط طرف أساسي معنيٌ بالعلاقات التونسية - الليبية، وهي صدحت بضرورة شن الحملات على تهريب الوقود على الحدود التونسية وفي كل أنحاء ليبيا. ووفقاً لرئيس المؤسسة، مصطفى صنع الله، يكلّف تهريب الوقود الاقتصاد الليبي أكثر من 750 مليون دولار سنوياً. وفي شباط 2018، التقى الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، غسان سلامة، صنع الله واتفق معه على «العمل سوياً لمكافحة محاولات الجماعات المسلحة انتزاع موطئ قدم لها في قطاع النفط الليبي، وأيضاً لتوسيع معطيات الشفافية حيال عائدات النفط الليبية». وتلا هذا الاجتماع في نيسان 2018 بيان من مؤسسة النفط حول مبادرة كبرى لمكافحة التهريب، تضمّنت وضع علامات على الوقود لتوفير الدليل على التهريب، وتشجيع العقوبات الدولية والملاحقة القضائية للمهربين، وترقية الإصلاحات في نظام الدعم الليبي.

بيد أن الشروخ والعقبات البيروقراطية والسياسية طفت على السطح وعرقلت هذه الجهود: ففي 14 شباط، حلّت شركة تابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، هي «شركة البريقة» لتسويق النفط، لجنة كانت تكافح (منذ العام 2015) تهريب الوقود والغاز في غرب ليبيا وجنوبها، وأقالت رئيسها ميلاد الهجرسي. وتلا ذلك بيان جاء فيه أن اللجنة كانت في الواقع جبهة غير شرعية لمكافحة التهريب، وبأن الهجرسي قيد التحقيق. هذه الخطوة دفعت مجموعة مسلّحة في طرابلس إلى الإغارة على مكاتب «شركة البريقة»، مُرفقة بإطلاق تهديدات ضد مديرها بسبب إقالته الهجرسي. وقد زعم أنصار هذا الأخير أن هدف الإقالة كان تقويض شعبيته المتنامية وصدقيته السياسية (بخاصة حيال مؤسسة النفط وشركة التسويق)، بعد أن أعلن عن نجاحه في حل مشكلة نقص الوقود في غرب ليبيا. بيد أن مراقبين ليبيين آخرين تكهّنوا بأن الضغوط من الفصائل الليبية كانت أصلاً قيد العمل هنا، وعلى قدم وساق أيضاً. على أي حال، أبرز هذا الحادث مدى التهالك المتواصل لمؤسسات الدولة الليبية، بفعل الشروخ السياسية والاقتصادية، والتهديد المتصاعد لهذه المؤسسات على يد المجموعات المسلحة.

وبالتالي، على الأطراف المحلية والدولية، إذا أرادت المضي قدماً، أن تستكمل الإجراءات الأمنية عبر التركيز أكثر على الاقتصاد غير الرسمي عبر الحدود، ومواصلة دعم موارد معيشة الكثير من البلدات الحدودية. إذ من دون مشاركة وانضمام المُستفيدين المحليين من هذا الاقتصاد (بما في ذلك الكارتلات وكذلك السكان)، يُرجّح أن تتداعى الحلول التكنولوجية والأمنية. وهكذا، وبدلاً من القيام ببساطة بإغلاق الحدود، يجب على السلطات المحلية أن تميّز بين الظواهر الآنية المُجحفة، كتهريب البشر والأسلحة، وبين عمليات التهريب الصغيرة للسلع كالوقود والسجائر.

إضافة الى ذلك كله، يجب على الجهود الأمنية أن تترافق في الوقت ذاته مع سياسات عملية على الأرض للمساعدة في تخفيف وطأة الضغوط الاجتماعية - الاقتصادية التي تمس السكان على جانبَي الحدود. وهذه الجهود يمكن أن تركّز على توفير موارد دخل بديلة، من خلال زيادة القدرة التنافسية الزراعية، وإدخال إصلاحات على ملكية الأراضي، والتدريب على المهارات، وتحسين البنى التحتية، والاستثمار في مشاريع التنمية. كما يمكن الأطراف الدولية أن تدعم هذه المبادرات، على وجه الخصوص من خلال تخصيص المساعدات الاقتصادية والدعم للمناطق الحدودية.

على رغم أن عدداً كبيراً من المهربين يتمتعون بقدر واسع من النفوذ، إلا أن القطاع غير الرسمي يفتقد القنوات التمثيلية كالنقابات والروابط المهنية، ما جعل صغار التجار عاجزين عن بلورة وحشد الدعم لمطالبهم السياسية والاقتصادية من الحكومة. ثم أن هذا يجعل الحكومات مُفتقدة إلى المعلومات الكافية حول القطاع غير الرسمي. لتصحيح هذا الأمر، يجب أن تركّز السياسات الأوسع على ترقية الروابط التي تدعم أولئك المنخرطين بنشاط في القطاع غير الرسمي.

إضافة إلى ذلك، تُعتبر إعادة العلاقات الاقتصادية الثنائية أمراً حاسماً، وقد تم بالفعل تحقيق نوع من التقدم على هذه الجبهة. فمجلس الأعمال التونسي – الليبي تأسس في نيسان 2018 لاستعادة العلاقات الاقتصادية الثنائية وتعزيزها. وأخيراً، أعلن وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي ورئيس الوزراء الليبي فايز السراج عن نيتهما الدعوة إلى استئناف الرحلات الجوية وتطبيع العلاقات التجارية. وفي الوقت ذاته، أدى قانون المالية التونسي العام 2016 إلى تبسيط الرسوم على الكثير من السلع وخفضها، بيد أن بعض البضائع المستوردة بقي خاضعاً لمعدلات رسوم خيالية بلغت 200 في المئة، وهو عامل يُحتمل أن يُعزّز التهريب عبر الحدود.

في الإجمال، يجب أن تُعالجَ سياسات الرسوم والدعم غير المُتناظرة هذه في ليبيا وتونس، من خلال زيادة التعاون الاقتصادي الذي يتضمن العمل في شكل متّسق بين البلدين على تحسين الوضع الحدودي. وهنا تتراوح توصيات السياسة العامة بين تنسيق معدلات الرسوم والضرائب وبين تشجيع صفقات الاستثمار الثنائي، وصولاً حتى إلى إقامة منطقة تجارة حرة إقليمية.

على كل حال، لا يزال ثمة الكثير للقيام به في كلٍّ من المجالين الأمني والاقتصادي. أما التركيز على الجانب الأمني وحسب، فسيفشل في الحد من التهريب والإتجار غير المشروع، وستكون له تأثيرات سلبية واسعة النطاق على معيشة مواطني الحدود. إذ سيهدّد في خاتمة المطاف الاستقرار الإقليمي كنتيجة لتفاقم التنافس بين الميليشيات، واندلاع الاحتجاجات العنيفة، وحتى عودة الحركات الجهادية مجدداً إلى الساحة، بسبب غياب الفرص الاقتصادية البديلة. ويجب أن تترافق المساعدات الأمنية الدولية مع استراتيجية اجتماعية - اقتصادية، ومع إيلاء اهتمام أكبر لإصلاح المؤسسات الأمنية، ومكافحة الفساد، وفي حالة ليبيا دعم المصالحة السياسية الوطنية.

ينشر بالاتفاق مع موقع «ديوان» التابع لمركز كارنيغي للشرق الأوسط