التاريخ: تشرين الأول ٩, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مناقشة "مانيفست لخلاص لبنان": متى يبلغ المغترب عندهم سن الرشد؟ - طنوس فرنسيس
الشكر الكبير لـ"النهار" وللجامعة الإميركية في بيروت على إصدارهما عدد "النهار الإستثنائي" والذي هو بالفعل كما سُمّيَ " مانيفيست لخلاص لبنان"، أنصح الجميع بقراءته من الغلاف إلى الغلاف رغم اعترافي أنني ما زلت أسبح بين دفتيه أرتطم بعنوان يعجبني، استكشفه لأستعجل الوصول إلى عنوان آخر لا يمكنني الإنتظارَ طويلا حياله، وهكذا دواليك...، إلا أني لا أذيع سراً إذا قلت أن عنوانين إثنين أسراني هما: الإغتراب (وأنا لست فقط مغتربا بل موغلا في الإغتراب) والعلمانية ( وإيماني بها كاد يوهمني بالقدرة على نقل الجبال) مستأذنا الإدلاء ببعض الملاحظات حولهما وحول دور الإغتراب بشكل عام.

أسارع إلى الإفصاح بدون مواربة أن الفكرة التي أدافع عنها والتي سأرصد غيابها عن مقالات كان منطقها (منطق المقالات) يفترض عدم غيابها، هي دور الإغتراب وحجم ذلك الدور في إدارة البلد، دوره في المساءلة، دوره في اختيار النظام السياسي في البلد، وليس فقط دوره في المجالات القطاعية، لأنه في رأيي ما يجعل المغترب يحجم عن المساعدة هو أن أحدا لا يسأل المغترب العادي - وليس فقط الكادرات - رأيه وتحديدا في السياسة. والجانب الآخر من الفكرة - وهذا الجانب يبدو غريبا - هو أن أكثر ما يحتاجه لبنان هو الإسهام السياسي للإغتراب قبل أي إسهام في أي قطاع آخر، هذا إذا ما اعترفنا أن الإختناق الذي يعاني منه لبنان هو اختناق ثقافي/ سياسي بالدرجة الأولى.

وحتى يمكن توضيح الفكرة لا بد دائما من التمييز في لبنان بين الطبقة السياسية وقوى التغيير، وفي الإغتراب، بين الإغتراب التابع ثقافيا ومذهبيا وسياسيا (لتلك الطبقة) والإغتراب المتحرر أو الحر والذي هو أقرب ثقافيا وسياسيا إلى البيئة الغربية (دون مواربة كما يقول جهاد الزين) التي يعيش فيها. ونشدان التغيير في لبنان هو ما يشكل المصلحة المشتركة بين قوى التغيير والإغتراب الحر.

حمل ملف الإغتراب العنوان التالي: "اكتساب ثقة لبنانيي الشتات واستدامة اهتمامهم من خلال الفرص والمساءلة"، وتحت هذا العنوان أُدرجت مقالات ثلاث "دولة القانون والبيئة الجاذبة" بقلم ناصيف حتّي (سفير سابق) و"أربعة شروط لتجذير العلاقة بين لبنان وشعبه المنتشر" لسفير لبنان السابق في وشنطن عبدالله بوحبيب، و"ثقافة الثقة والمساءلة هي التي تشجع المغتربين" لعالم الفيزياء جورج حلو، كما كتب شكري صادر، رئيس مجلس شورى الدولة سابقاً من خارج ملف الإغترب عنوانا " تبدأ المساءلة بالإستحقاق الإنتخابي، فأين المساءلة؟"، وكتب جهاد الزين عن "الحق في الهجرة من لبنان كعمل وطني" ونايلة تويني وسركيس نعوم وجومانة حداد ورشيد درباس وجوزيف عيساوي وحنا غريب، عن العلمانية.

يبدأ ناصيف حتّي (مع حفظ ألقاب الجميع) مقاله بـ" يتفق الجميع ان الاغتراب اللبناني طاقة كبيرة للبنان اذا ما امكن توظيفها في اطار استراتيجيا وطنية شاملة ومتكاملة. الاغتراب يمكن ان يكون رافعة اساسية في عملية التنمية الانسانية في المجالات كافةً، ومن اهمها من دون شك، المجال الاقتصادي..."

"الإغتراب اللبناني"؟، أي إغتراب؟ التابع أم الحر؟ أي لبنان؟ الطبقة السياسية أم قوى التغيير؟ "الإغتراب اللبناني طاقة كبيرة للبنان إذا أمكن توظيفها". الصيغة توحي أنّ"الطاقة" بحاجة لمن "يوظفها" من خارجها. هي مفعول به لا فاعل. "رافعة أساسية في عملية التنمية الانسانية في المجالات كافةً". المقال بكليته لا يوحي أن " كافة" تعني كافة، فالمجال السياسي مستثنى، "ولا شك في أن الإغتراب...يمثل ثروة وجدانية عاطفية تراثية ثقافية وإجتماعية للوطن الأم..." السياسي غيابه واضح، لا لسوء في النية على الأرجح بل لعدم إدراك أهميته، "المطلوب تنظيم الإغتراب في هيئات قطاعية، مثل رجال الأعمال ومختلف أنواع الإختصاصات والمهن..." يغيب المغترب/ الإنسان ودوما تغيب السياسة، أما بيت القصيد عند حتّي فهو "لكن ذلك يستدعي تعزيز أو بناء دولة المؤسسات والقانون والمساءلة والشفافية، كلها عناصر أكثر من ضرورية لتحويل النيات الطيبة الى سياسات قائمة تخدم الوطن وتمنع انهياره، وتسمح للمغترب بأن يقوم بدور فاعل في تحصين الوطن وتعزيز مناعته أمام تحديات الداخل والخارج، القريب والبعيد..."، السماح للمغترب بأن يقوم بدور فاعل في تحصين الوطن وتعزيز مناعته لن يكون إلا بعد بناء دولة المؤسسات والقانون والمساءلة والشفافية. أما بناء تلك الدولة فلا شأن للمغترب به إذ عليه الإنتظار حتى تتحقق المعجزات كي يبدأ دوره مهما طال الإنتظار، ولذلك فهو إما قد أدمن الإنتظار أو ملّه.

يتحدث عبدالله بو حبيب عن "أربعة شروط لتجذير العلاقة بين لبنان وشعبه المنتشر". مرة أخرى لا تمييز. هل نتحدث عن تجذير العلاقة بين الطبقة السياسية وأتباعها أو مؤيديها في الإنتشار أم بين قوى التغيير والإغتراب الحر؟ ويعلن بو حبيب أنه "لا يمكن للقطاع العام وحده ان يقوم بمهمة تعميق الاتصال مع الانتشار اللبناني الواسع، ان مؤسسات القطاع الخاص مدعوة الى تخصيص بعض من جهودها لهذا الهدف"، إذ "يتجاوز عدد متخرجي الجامعة الاميركية في الولايات المتحدة عشرات الآلاف، منتشرين ما بين المحيطين الأطلسي والباسيفيكي وفي مختلف القطاعات الاقتصادية، الاكاديمية والخدماتية والمالية والانتاجية والإعلامية..."، غريب ألم تخرِّج الجامعة الأميركية أحدا في السياسة؟! وبعد أن يعدد سلبيات البنى التحتية يصل بو حبيب إلى بيت القصيد نفسه الذي وصله زميله حتّي قبله "على الدولة اللبنانية ان تعالج السلبيات المشار اليها أعلاه بسرعة وفعالية. ليس هناك سبب مقنع لبقاء البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية في لبنان في حالة انهيار مستمر، يرفضها اللبنانيون جميعا...". وهل هناك سبب مقنع لبقاء البنية السياسية على حالها؟! أماّ لماذا لم تعالج الدولة تلك السلبيات فأمر حتما لا علاقة له بالسياسة ولا طبعا بالإغتراب!! وتكرارا على المغترب أن يبقى في حالة انتظار إلى أن تنتهي الدولة (العليّة) من معالجة "السلبيات المشار إليها أعلاه".

ويؤكد جورج حلو أن "ثقافة الثقة والمساءلة هي التي تشجع المغتربين" ويشرح "ما يعرف بالكتلة الحرجة" في بناء اقتصاد المعرفة وشروط قيام تلك الكتلة إذ من بينها إقامة المجتمعات الإفتراضية ليختم بالقول "العمل المطلوب لتحقيق الرؤية الهادفة إلى إرساء اقتصاد معرفي مستدام استناداً إلى مجتمعات افتراضية، يقتضي مجهوداً شاقاً وكبيراً، لكنه ليس مستحيلاً. الطاقات واعِدة جداً..."، ويأوي أخيرا إلى البيت نفسه الذي أوى إليه من سبقه إذ يقول "غير أن مفتاح النجاح يتمثّل في ثقافة قائمة على الثقة والمساءلة من شأنها أن تشجّع المغتربين على المشاركة عبر توظيف الثقل الكامل لمواردهم...".

لا تعليق على القول الأخير سوى ما قاله شكري صادر كعنوان لمقاله "تبدأ المساءلة؟ بالإستحقاق الإنتخابي، فأين المساءلة" ثم يصل إلى القول: "والسؤال الكبير يبقى: إذا كان اللبنانيون متفقين على أن الأداء السياسي منذ الطائف قد أوصل لبنان إلى ما هو عليه اليوم، فبالله عليكم كيف تفسرون إعادة انتخاب معظمهم في الإنتخابات الأخيرة؟ وتتحدثون عن المساءلة؟ مع صادر خطونا خطوة إلى الأمام، تم الإعتراف بوضوح ساطع بالسياسة وبأن الإختناق في البلد هو اختناق سياسي بالدرجة الأولى – غياب المساءلة – لكن مع الأسف بقي المغترب غائبا عن السياسية. إذاً ليس لأحد أن يسأل المغترب شيئا ما عدا سؤالا واحدا يبقى واجبا ومشروعا هو كيف للمغترب أن يساعد البلد في التخلص من ذلك الإختناق (السياسي).

أكثر من اقترب من نبض الإغتراب هو جهاد الزين، ربما لأن لديه أولاد يقيمون في الخارج، فدعا إلى "إيجاد خطاب سياسي جديد يحترم ويعلن احترام حق الشباب في الهجرة، وبالتالي دعوة الدولة اللبنانية إلى بناء سياسات واضحة وصريحة في ضوء احترام هذا الحق، وليس نفْيه كحق،..." و "الاعتراف بهذا الواقع كمعطى يمكنه أن يتحوّل معطى تطويريّاً للبنان الدولة والمجتمع".

متى سيصل هذا الإعتراف - إذا حصل - إلى تغيير الصورة النمطية عن المغترب: هارب، مرتاح عا وضعو، وينظّر من البعيد، لو أعطى كل ما يملك لا فضل له، وإن حاول تصويب أمر، اتُهم بالتدخل فيما لا يعنيه. متى يدرك المقيم الطامح إلى التغيير، أهمية دور الإغتراب الحر؟ أم أنه سيترك الإغتراب لقمة سائغة في أفواه الطبقة السياسية الحاكمة كما حصل في الإنتخابات الأخيرة؟ متى يأخذ المغترب دوره كاملا في المساءلة؟ وكما قال شكري صادر" تبدأ المساءلة بالإستحاق الإنتخابي"، فأين هم نواب المغتربين؟ هاتوا لنا قانونا انتخابيا يشعر معه المغترب أنه ممثل تمثيلا حقيقيا وخذوا منا ما ينقذ لبنان.

مغترب لبناني مقيم في سيدني