التاريخ: تشرين الأول ٩, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
بداية واعدة في العراق لكن التحديات كبيرة - حميد الكفائي
بعد مرور خمسة أشهر على الانتخابات النيابية في العراق، توشك الأزمة السياسية على الانفراج بعد اكتمال انتخاب الرئاسات الثلاث، على رغم ما شاب العملية من خلافات وصراعات وإحباطات. وفي الوقت الذي رافقت عملية انتخاب رئيسي البرلمان والجمهورية خلافات حادة وتناحرات سياسية، مر تكليف رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، بهدوء ولاقى ترحيباً كاملاً من الأطراف السياسية بمختلف تلاوينها.

الترحيب السياسي العراقي والدولي بتكليف عبد المهدي يبشر بخير، وهو يحصل لأول مرة لزعيم عراقي منذ التغيير عام 2003. وعلى رغم أن عبد المهدي يتمتع بمزايا لا يشاركه فيها أحد من أسلافه، من مؤهلات اقتصادية مرموقة وتجربة سياسية حافلة وثقافة واسعة وفهم عميق للسياسة الدولية، وإجادة تامة للغتين الفرنسية والإنكليزية، إلا أن القبول المطلق والترحيب الواسع اللذين لقيهما عبد المهدي ليسا بالضرورة مرتبطين بجدارته ومزاياه ومؤهلاته، فالرجل ليس طارئاً على العملية السياسية كي يكتشفه العالم فجأة، بل مشارك فيها بقوة منذ عام 2003، وكان قد تنافس على رئاسة الوزراء عام 2006 وتفوق عليه إبراهيم الجعفري بصوت واحد.

لم تشهد الساحة العراقية تفككاً كالذي أفرزته الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها أكثر من عشرين تحالفاً سياسياً، حاز أكبرها، «سائرون»، بزعامة مقتدى الصدر، 54 مقعداً، بينما حصل تحالف «النصر» بزعامة حيدر العبادي، على 42 مقعداً، غادر نصفه إلى كتلة منافسة بُعيد إعلان النتائج. تحالف «الفتح»، بزعامة هادي العامري، حاز 47 مقعداً، ما مكّنه من المنافسة على رئاسة الوزراء، إذ شكل مع «دولة القانون» و «المحور»، كتلة «البناء» التي ادعت أنها الأكبر في أول جلسة للبرلمان. لكن تحالف «الإصلاح» الذي ضم «سائرون» و «النصر» و «الوطنية» و «الحكمة»، قد أعلن هو الآخر في الجلسة ذاتها أنه الكتلة الأكبر. ويحصل هذا الإرباك لأول مرة، فلم تتنازع كتلتان من قبل على موقع الكتلة الأكبر التي يحق لها تشكيل الحكومة. وعلى رغم أن تحديد الكتلة الأكبر يبدو سهلاً، إذ يمكن حسم الموقف بإجراء حسابي بسيط، إلا أن المواقف المتذبذبة لبعض النواب أَوهَم كلا الكتلتين بأن عدد أعضائها أكثر من الأخرى، ولم يعرف حتى الآن أي الكتلتين أكثر عدداً، إن افترضنا أنهما كتلتان حقيقيتان وليستا مجاميع غير متجانسة من النواب الباحثين عن مكاسب.

هذا التناحر بين الكتل السياسية وخلافاتها الحادة وتنافس زعمائها الشديد، جعل الجميع يبحث عن منقذ يمكن أن يرضي الأطراف كافة ويكون مقبولاً لدى المجتمع الدولي واللاعبيْن الرئيسييْن في العراق، إيران والولايات المتحدة. وهنا برز اسم عادل عبد المهدي باعتباره الشخص الوحيد الذي يتمتع بكل هذه المزايا. وفعلاً، اقتنع الجميع بأنه رجل المرحلة. ولكن، هل اقتنع الفرقاء حقا بتسليمه مقاليد الأمور والتسليم بما يفعل مستقبلاً، أم إنها هدنة لفترة وجيزة تبدأ بعدها التناحرات والتنافس على السلطة؟

المعروف عن عبد المهدي أنه لا يكترث للمنصب، وقد استقال من منصبين رفيعين، نائب رئيس الجمهورية عام 2011، ووزير النفط عام 2016، من دون تردد بعد أن أدرك أن المنصب لا يسمح له بتحقيق الإنجازات التي يطمح إليها. ويخشى البعض من أنه قد يلجأ إلى الاستقالة إن لم يتعاون معه الآخرون، لكنه هذه المرة يمتلك زمام المبادرة وفي إمكانه أن يعلن للشعب العراقي من هم الذين يعرقلون أداءه مهماته.

الفرصة المتاحة لعبد المهدي الآن تاريخية ونادرة، وعليه استثمارها لتحقيق إنجازات حقيقية ترسِّخ النظام السياسي وتضع الاقتصاد العراقي على السكة الصحيحة. مثل هذه الفرصة توفرت لسلفه، حيدر العبادي، عام 2015، لكنه أضاعها. ما يحتاج إليه عبد المهدي هو الإتيان بخبراء من أصحاب التجارب الناجحة، لإدارة الدولة. يجب أن يعيد النظر في التعيينات السابقة للمناصب المهمة، ابتداءً من المناصب العليا كرؤساء المؤسسات المستقلة والقضاة والسفراء، إلى وكلاء الوزارات والمفتشين والمستشارين والمديرين وأساتذة الجامعات وكبار الضباط. هذا لا يعني أبداً أن هؤلاء جميعاً غير صالحين وغير أكفاء ويجب إقصاؤهم، لكن معظم التعيينات منذ عام 2003 هي تعيينات سياسية وقرابية، لم تحصل حسب الكفاءة، بل حسب الولاء الحزبي والشخصي، وإن لم تتغير هذه الإدارات الفاشلة فإن أي تغيير في قمة الهرم لن يكون مجدياً. يجب التأكيد هنا أن حيدر العبادي لم يكن سيئاً بل كان مقيداً.

كل شيء الآن مواتٍ لإحداث تغيير جذري وشامل، فالشعب العراقي غاضب ويتظاهر منذ تموز (يوليو) الماضي ضد الفساد والبطالة وسوء الخدمات، والكتل السياسية تدرك أنها لا تستطيع أن تحكم بالطريقة السائدة منذ 15 سنة، والمرجعية الدينية أعلنت أنها تساند خطوات جريئة للنهوض بالبلد واجتثاث الفساد. عادل عبد المهدي أهل لهذه المهمة الصعبة وجدير بها وأقول هذا الكلام عن معرفة دقيقة بالرجل فقد تعرفت إليه على صفحات هذه الجريدة في تسعينات القرن الماضي، إذ كنا نكتب في الباب الاقتصادي، كما عملنا معاً في مجلس الحكم، ثم في وزارة المال وأستطيع القول أنه يمتلك رؤية رجل الدولة الذي يذهب إلى أمدية بعيدة من أجل إحداث التغيير المنشود.

التحديات كثيرة وكبيرة وملحة، فالأداء السيئ للحكومات المتعاقبة أوصل الأوضاع إلى مستويات خطيرة من العجز والتدهور. الحكومة المرتقبة ستكون بمثابة خلية أزمة تعمل على حل المشكلات المتراكمة، ولكن عليها ألا تهمل الجوانب الاستراتيجية البعيدة الأمد. يجب أن يتغير التفكير السائد حول دور الحكومة، وهذا يحتاج إلى عمل ثقافي دؤوب تضطلع به ابتداء وزارات التربية والثقافة والداخلية. يجب خلق البيئة الملائمة للاستثمار وإرساء الأسس القانونية التي يحتاج إليها القطاع الخاص كي يأخذ دور الحكومة في الكثير من القطاعات الخدمية. لا يمكن أن تبقى الحكومة المسؤول الأول عن التوظيف، فمثل هذه الحكومة (الأبوية) لم يعد موجوداً في عالمنا. الحكومة تشرِّع القوانين وتشجِّع الاستثمارات وترعى المبادرات وتدير الأمن وتفعِّل القضاء وتراقب الأداء الاقتصادي العام، لكنها لا تتدخل إلا عند حصول تشوهات أو أزمات، والاقتصادي عادل عبد المهدي، العارف بتفاصيل الاقتصاد الحديث، أفضل من يديرها، لكنه لن ينجح إذا لم يتمتع بالدعم السياسي اللازم ويحظى بالرقابة البرلمانية المسؤولة. إنها فرصة تاريخية للعراق إن أحسن السياسيون استثمارها.

* كاتب عراقي