التاريخ: تشرين الأول ٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لهذه الأسباب انطوت صفحة حكم حزب الدعوة في العراق - ابراهيم بيرم
لماذا اختيار عبد المهدي من دون سواه لرئاسة الحكومة؟
لماذا اختيار عبد المهدي من دون سواه لرئاسة الحكومة؟
لم تكن تسمية عادل عبد المهدي لرئاسة حكومة العراق، المنصب الارفع والافعل في رأس هرم السلطة في بلاد الرافدين، عملية انتقال عادية تخضع لمعايير اللعبة الديموقراطية في أي بلد، بل هي في مثل الظروف البالغة التعقيد التي تمت فيها تعد تحولاً مفصلياً ونقلة نوعية تنطوي على حزمة دلائل وأبعاد.

أبرز هذه الأبعاد والدلائل:

- أفول نجم تجربة حكم أعرق حزب للشيعية السياسية ولد في القرن الماضي ووضع نصب أعينه الوصول الى حكم العراق ودفع في سبيل هذا الهدف الأثمان الكبيرة والتضحيات الجسام وهو حزب الدعوة.

- انطواء صفحة وانفتاح صفحة جديدة في تاريخ العراق ما بعد الاحتلال الأميركي له وسقوط نظام صدام حسين عام 2003 وبلوغ الشيعة حكم هذا البلد المحوري الذي يشكلون الأكثرية غير الساحقة فيه، وذلك بعدما أبعدوا عنوة عن ذلك منذ اغتيال الامام علي في مسجد الكوفة بعد مضي نحو 45 عاماً على وفاة النبي محمد.

15 عاما من التحولات والتطورات الدراماتيكية في عراق ما بعد صدام ربما ليست شيئاً كبيراً في عمر الدول، لكنها كانت كافية لاستنزاف واستهلاك كل الاحزاب والقوى والتيارات الحديثة النشأة والمخضرمة التي أطلت وسعت الى تثبيت حضورها في المشهد السياسي العراقي الغارق بالأزمات والتعقيدات. وفي مقدم هذه الأحزاب والقوى حزب الدعوة الذي كان رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي آخر قيادي منه يتسلم سدة رئاسة الوزراء فيه بعد سلفيه ابرهيم الجعفري ونوري المالكي.

طي صفحة حزب الدعوة

وبازاحة العبادي أخيراً في بغداد، يكون قيض للحزب أن يطوي تجربة حكم استمرت عقداً من الزمن في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي ونشوء هوية سياسية مختلفة عن تلك التي سادت إبان حكم البعث بين عامي 1968 و2003. وبالاجمال كان التقويم النهائي لتجربة هذا الحزب على درجة كبيرة من الخيبة، ويوشك الراسخون في الشأن العراقي ان يخرجوا باستنتاج خلاصته أن فرصة هذا الحزب في الحكم قد ولت الى غير رجعة وان مصيره بعد ازاحته قسراً عن الحكم هو مزيد من التشرذم والضعف.

الحزب الذي نشأ مطلع الخمسينات، على أيدي نخبة من أساتذة الحوزة الدينية الشيعية العليا في النجف في مقدمهم المفكر الابرز السيد محمد باقر الصدر، ليكون استنساخا لتجربة " الاخوان المسلمون"، التنظيم السياسي السني الأعرق على الاطلاق الذي وُلد في مصر عام 1928. هذا الحزب لم يكن متوقعاً له أن يحكم العراق طوال عقد من السنين بل لم يكن منتظراً منه أن يحكم أصلاً، لكن الظروف وخلافات القوى الشيعية على كعكة الحكم ومنها صراع السيد مقتدى الصدر مع آل الحكيم وتيارهم المجلس الاسلامي الأعلى في العراق والموافقة الايرانية الضمنية وعزوف مرجعية آية الله العظمى السيد علي السيستاني عن قول الكلمة الفصل، كلها عوامل أتاحت فرصة للحزب لبلوغ السلطة مع انه لم يكن يوماً الحزب الجماهيري الأوسع، إذ كان ينظر اليه دوماً على انه حزب النخبة.

لكن توافق الشيعية السياسية في العراق على اتاحة الفرصة للدعوة كي يحكم، رفعت منسوب الصراعات والانقسامات المزمنة في داخله، وزادت عجزه عن تقديم تجربة حكم متقدمة تشكل نموذجاً يقتدى به.

فالمعلوم ان المالكي انقلب على سلفه الجعفري وفصله لاحقاً من قيادة الحزب ليؤسس لاحقاً تياراً خاصاً مستقلاً، ثم ما لبث العبادي أن أطاح المالكي وحاول تكريس تجربة مغايرة في السلطة، وسولت له نفسه التمديد فيها. ومما يذكر ان العبادي بلغ المنصب بتوافق ايراني – أميركي ليكون بديلاً من المالكي الذي حاصرته تهم شتى منها الانحياز الى طهران والفئوية، ومنها أيضاً المسؤولية عن تفشي ظاهرة الفساد وفتحه أبواب التصادم بين قوى داخلية كالتيار الصدري ومع الرياض ولاحقاً مع واشنطن نفسها، فضلاً عن اتهام السنة له بممارسة سياسة مذهبية.

ستاتيكو أتى بعبد المهدي

وعليه جاء العبادي في مرحلة البحث عن شخصية وسطية انفتاحية الى حد ما وليست صدامية تعيد وصل ما انقطع، لكن رياح التطورات عاكسته تماماً، إذ سرعان ما اندلع الحريق في سوريا المجاورة وما لبثت نيرانه أن امتدت الى الداخل العراقي ليمسي ثلث العراق مساحة وسكاناً تحت سيطرة تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش)، ولتشهد بلاد الرافدين مدى نحو أربعة اعوام مواجهات كارثية رفعت منسوب التفكك الداخلي والفساد واهتراء الدولة العراقية، مما أفضى الى زيادة الحضور الايراني من جهة، والى الصراع الاقليمي على هذا البلد من جهة اخرى. ومع هذا المشهد التصادمي – التصارعي أتت نتائج الانتخابات العامة الاخيرة في البلاد لتزيد الاستعصاء وتزيد الأزمة استفحالاً، ولا سيما مع تشتت الأصوات والمقاعد وصعوبة جمع قوى يمكنها ان تشكل الكتلة الكبرى الجديرة بتولي رئاسة الوزراء، ومن ثم اشتعال الصراعات مجدداً. وبمعنى آخر، أظهرت هذه النتائج تعادلاً في القوى بين اللاعبين الاقليميين الاكبرين، مما ولد نوعاً من الستاتيكو. وعليه أتت فتوى مرجعية السيستاني بوضع فيتو على كل الشخصيات التي جربت سابقاً في رئاسة الحكومة، لتلغي ضمناً نتائج الانتخابات، ولتفتح الطريق أمام تسمية شخصية ملتبسة في تاريخها وحاضرها ومن خارج كل ألوان الطيف السياسي العراقي المألوف والتقليدي مثل عبد المهدي.

لا ريب في أن الرجل ليس نكرة في عالم السياسة في العراق، فهو في آخر تحولاته وتجلياته السياسية كان ممثلاً للمجلس الاسلامي الاعلى في العراق برئاسة السيد عمار الحكيم في نيابة رئاسة الجمهورية (واحد من أربعة نواب) وتولى سابقاً مناصب وزارية حساسة. لكن مشكلته انه من خارج كل ألوان الطيف السياسي العراقي الشيعي، فهو وان انتمى متأخراً الى المجلس الاسلامي الاعلى، إلا أنه ما لبث أن خرج منه بعد انتكاسات هذا التنظيم وخروج وريث الزعامة فيه السيد الحكيم منه وتأسيسه تياراً سياسياً جديداً أطلق عليه "تيار الحكمة"، فضلاً عن أن عبد المهدي ذو بدايات سياسية متلونة وملتبسة، فهو ماركسي - ماوي النشأة انتقل الى حاشية حكم البعث ليخرج بعد ذلك من العراق معارضاً ومؤسساً حزباً إسلامياً لم يكتب له الانتشار، ليعود الى باريس حيث مكث فترة طويلة ارتبط خلالها بعلاقة وثقى بدوائر الحكم فيها قبل ان يزور طهران. في حين أن "الفتحاويين" القدامى يذكرون أنه مر عليهم في بيروت في حقبة من حقب "عز" حركة "فتح". لكن هذه الاعتبارات لا تلغي حقيقة كون الأمر قد قضي والفتوى صدرت ولا راد لها: انتهى دور الأحزاب والقوى المجربة في العراق وفتحت الأبواب ولو عنوة لشخصية مثل عبد المهدي فضيلتها الاولى انها ليست غارقة في الفساد شأن الآخرين. هل ينجح حيث اخفق أسلافه جميعاً من دون استثناء؟

الأمر غير مضمون، ذلك أن كمية التعقيدات الموروثة في العراق أكبر من أن تحلّها أي شخصية بمفردها في فترة ولاية الحكومة.

هل هذه النتيجة تظهر أن إيران أخفقت في إحكام قبضتها وبسط نفوذها على هذا البلد؟
الأكيد أن المشكلة ليست في طهران، بل ان أحداً في تاريخ العراق منذ ما بعد معركة صفين، لم يقدر على ضبط أوضاع هذا البلد، الذي ينزلق كما الرمل من يد من يعتقد أنه يقبض على الزمام فيه.