التاريخ: أيلول ١١, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
في دعوة رياض الترك إلى انطلاقة ثورية جديدة - خليل عيسى
ليس سهلاً أن تكون معارضاً سورياً للأسد وحلفائه في هذه الأيام. لم تعد مشكلتك الوحيدة إجرام عدوّك الفاشي ووحشية حلفاء روس وإيرانيين يفوقونه خسة. باتت الآن هنالك صعوبة «موضوعية» في قدرة السِيَر الذاتية للمعارضين السوريين، المليئة بلحظات الإخفاق وقصر النظر والأخطاء السياسية الفادحة، على إقناع الناس بأنّه يمكن هؤلاء أن يكونوا قيادة سياسية في المرحلة المقبلة. يحاصِرُك إرهاق جمهورك وانفضاضه عنك في لحظة يشعر فيها الجميع بأنّ الثورة مهزومة. ترتفع الأصوات المحتجة، متوعّدة كل معارض بحجة محاسبة تأخّرت كثيراً. هو ربع الساعة الأخير من ليل واحدة من أكبر الثورات جرأة وتراجيدية في تاريخ البشرية الحديث.

ثمة الكثير من المرارة والغضب. بعض يريد محاكمة المناضل الثوري على ما يعتبره كارثة يومية تحلّ به في المنافي البعيدة أو في مخيمات اللاجئين. بعض آخر يكاد يحرق حيّاً أي معارض بكلامه لأنّ المرارة باتت أجبن من أن تتجرأ على لوم الأسد لحظة الهزيمة. بعض آخر يريد أن يتقرّب من المنتصر المنتظَر عبر شتم المعارضين «الذين يعيشون في الفنادق». بعض أيضاً يستميت في الدفاع عن نظرياته ومواقفه السابقة التي أثبتت فشلها بتعالٍ أجوف لا يصمد أمام الواقع وتحوّلاته. وكثير ممن كانوا ضدّ النظام بات من مصلحتهم أن يساووا بين النظام ومعارضيه. «الطرفان دمرا البلد». «لا يوجد أحد أفضل من أحد». يصل الأمر في كثير من الأوقات إلى حدّ التماهي مع الدعاية الأسدية التي تجعل كل معارض «إرهابياً» محتملاً يقرب أو يبعد من التنظيمات الجهادية الموجودة. لهذا، كان لا بدّ من شجاعة مناضل استثنائي بقي داخل سورية كل هذا الوقت مثل رياض الترك للكلام عن المهمات التي تطرح على السوريين. قال الترك إن النضال يجب أن ينتقل من حرب تشنّ ضد نظام إلى حرب تحرر وطني تشنّ ضد محتلين مستعمرين من إيرانيين وروس وأتراك وأميركيين وغيرهم. «لم يعد هناك في سورية شيء اسمه نظام بشار الأسد. هذا وهم موجود في رؤوس البعض... هناك عصابات مرتبطة بولي نعمة روسي وعصابات مرتبطة بولي نعمة إيراني وعصابات مرتبطة بولي نعمة أميركي أو تركي... هناك احتلال مباشر» (من مقابلة مع محمد علي الأتاسي في «القدس العربي»، 3 أيلول/ سبتمبر 2018).

لكن البعض اعترض على توصيف الترك لتركيا بالمحتلّ كما هو معمول به في حالة كلّ من روسيا وإيران و «حزب الله» وباقي الميليشيات العراقية. لكن، لو أردنا تنشيط ذاكرتنا سريعاً فإنّ بركات أردوغان على السوريين تغمرهم منذ أن أخرج المقاتلين من حلب لتوظيفهم مرتزقة في»درع الفرات»، ما عنى حينذاك تسليم المدينة للروس. بعد ذلك، كانت الغوطة واحتلال جرابلس وتهجير عفرين وأهلها. لقد كان مفعول أردوغان السياسي ضد الثورة السورية دوماً أقوى بكثير من المفعول السياسي لحلفاء الأسد. مرتزقته الذين لم يقاتلوا النظام يوماً أفسحوا المجال للأسد خلال هجومهم على عفرين لكي يستحوذ على أقسام واسعة من محافظة إدلب. وفي الواقع، فإنّه من دون التنسيق التركي مع الروس والإيرانيين خلال السنوات الماضية لم يكن للمعارضة أن تخسر بالحيلة السياسية ما اكتسبته بكثير من التضحيات البشرية والبطولات العسكرية. لكن الخطر المميت اليوم هو أنّ الثورة السورية تخسر بسبب الطيب قرارها السياسي. تفقد ذاتها السياسية. وليست ضغوط أردوغان الأخيرة على مقاتلي «هيئة تحرير الشام» للاستسلام إلا مثلاً أخيراً ولن يكون آخراً على هذا.

عندما نتذكر أنّ الاستعمار إنّما هو مفهوم سياسي وليس مجرد توصيف عسكري، فإنّنا نستنتج أنّ ما قام به أردوغان فعلياً من منظور وطني سوري إنما هو احتلال سياسي للتفكير الثوري يفوق أحياناً خطورة الاستعمار العسكري المباشر. الأمر ذاته، ولو على مستوى أكثر ترسخاً، نراه في العراق، حيث لدينا بالاسم حكومة وبرلمان وانتخابات منذ عام 2003، لكن الواقع يقول أن العراق تحتله إيران: هذا ما يعرفه جيداً أهل البصرة المنتفضة اليوم. فقط من خلال الوضوح والموضوعية في توصيف شكل الاحتلال التركي ومعناه عند ذكر الاحتلالات الأخرى تبدأ عملية استعادة الإجماع الوطني في نضال ضروري ضد المحتلين جميعاً. هو إجماع وطني إذا ما تمّ بناؤه يمكنه أن يعرف حتى من ذاك الجمهور السوري الصامت الذي يعتبره البعض موافقاً في شكل سلبي على بقاء النظام، تماماً كما افترض البعض أن سكان البصرة من الشيعة هم في جيب إيران طوال السنوات الماضية. وحده فهم دقيق لأشكال الاستعمار الموجودة في سورية والعراق لا يعتبر الأتراك «حليفاً ضالاً»، هو ما سيسمح بالتفكير جدياً في عقد تحالفات تحررية ومسارات متقاطعة ونضالات موحّدة من سورية حتى اليمن. وسيسمح هذا إذا ما تجرأ المعارضون السوريون على اتخاذ وقفة نقدية منه، كما يقول الترك، برؤية القضية السورية من منظور عربي وبالخروج من حالة الإحباط القاتلة. في قلب هزيمة الثورة السورية هناك بذور تتيح تحويل الهزيمة إلى مشروع يعيد الأمل إلى الديموقراطيين العرب وليس السوريين وحدهم.

من هو الأقرب إلى السوريين في إدلب اليوم: شباب البصرة الذي حرق القنصلية الإيرانية أم أردوغان الذي يتلذذ بحبات «الكاجو» على الطاولة ذاتها مع روحاني وبوتين؟

* كاتب لبناني