التاريخ: آذار ١٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في خطاب التقدم ... مجدداً - كرم الحلو
منذ الثلث الأخير من القرن الماضي راح عالمنا يخطو خطوات جبارة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية كلها. قفز الدخل الإجمالي العالمي من 3 آلاف بليون دولار عام 1960 إلى 28423 بليون دولار عام 1998 إلى 92889 بليون دولار عام 2012. ترافق ذلك مع تطور مذهل في التكنولوجيا وتحسّن في مستوى التغذية وفي مجال المساواة بين الجنسين وفي معدل العمر المتوقع، فضلاً عن قفزة معرفية كبرى أكثر ما تمثلت في ثورة الاتصالات المعاصرة.

إلا أن ثمة تساؤلات مربكة يمكن طرحها بعد كل هذه الإنجازات غير المسبوقة: هل بات الإنسان اليوم أكثر سعادة من قبل؟ هل أصبح أكثر وفاقاً مع نفسه ومع المجتمع ومع الكون؟ هل صاحب التقدم الاقتصادي والعلمي تقدم آخر موازٍ في نوعية العلاقات المجتمعية والإنسانية؟

على الضد من هذه التصورات، ثمة خلل عميق يهدد المثل الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية التي شكلت أساس حركة التنوير وركائز التفاعل البناء بين الأفراد والجماعات والشعوب والأمم. فقيم العدالة والرحمة والتعاون تتراجع لتتقدم قيم الفردية والأنانية والتسلط، ومُثل الأممية والانفتاح والعقلانية تتأخر في مواجهة التقوقع القومي والتعصب والعنصرية، ومبادئ عصر التنوير الليبرالية تنهزم أمام الأصوليات الرجعية المتخلفة.

في رأي ريتشارد سينيت في «في مواجهة التعصب» (دار الساقي 2016) أن العمق الذي وصلت إليه اللا مساواة الجديدة يثبت مرة أخرى خطورة الشرّ القديم، حيث توسّعت الفجوة بين الأغنياء والطبقة الوسطى أكثر من أي وقت مضى. ففي الولايات المتحدة زادت حصة الخمس الوسطى من الثروة في خلال الخمسين سنة الأخيرة 18 في المئة، بينما ارتفعت حصة الخمس العليا بمقدار 293 في المئة. وقد أصبح التماسك الاجتماعي حالياً، سواء في أميركا أو أوروبا، أقل مما كان عليه قبل ثلاثين سنة، بينما الثقة بالمؤسسات والقادة هي الأدنى.

تؤكد ذلك مقابلات مع عائلات من الطبقة العاملة في بوسطن في سبعينات القرن الماضي، بيّنت أن العمال اليدويين شكلوا روابط قوية في ما بينهم، وكانوا يغطون على زملائهم الواقعين في مشكلات، حتى أنهم كانوا جاهزين للعمل ساعات إضافية، وتأدية عمل غيرهم في حال حصول خطب طارئ. فيما دلت مقابلات مع مجموعة من العمال بعد الانهيار المالي عام 2008 على قلة الاحترام التي عوملوا بها من قبل مديريهم وعلى سطحية الثقة وضعف التعاون في ما بينهم، وعبّر كثير من هؤلاء عن شعورهم بالمرارة بسبب نوعية الروابط في أماكن كانوا يمضون معظم أوقاتهم فيها. ما حدا بريتشارد سينيت على الاستنتاج أن النخب المعاصرة تعيش في انفصال عن مسؤولياتها تجاه الآخرين، ولا عجب إذا أصبح الناس مكرهين تحت هذه الظروف على البحث عن تضامن هدام في ما بينهم من نوع – نحن – ضد – هم.

من المنظور ذاته لاحظ إدغار موران أن القدرة الشرائية في فرنسا بين 1960 و1990 تزايدت 3 مرات، لكن هذا النجاح الاقتصادي كان مقابل ثمن إنساني باهظ تجلى في الاستهلاك المسعور لأدوية الأمراض العقلية ومضادات الانهيار العصبي الذي تضاعف 6 مرات، وعدد المنتحرين الذي تضاعف 3 مرات.

فيما أجمعت الدراسات الاجتماعية والنفسية على أن الاكتئاب يتزايد في الغرب على رغم الرفاه الظاهر. فمن خلال استطلاع 22 ألف بريطاني، معظمهم دون الثلاثين، ويعيشون في المدن، تبيّن أن 76 في المئة يشعرون بتعب دائم، و52 في المئة بالافتقار إلى العاطفة والحوافز و50 في المئة يعانون القلق والاكتئاب وصعوبة في النوم وضعف الذاكرة.

ما حدا بجوناثان بوريت على الاستنتاج أن الأساس الاجتماعي للاستياء في المجتمع المعاصر لا يكمن في الدخل بل في وحشة الوحدة والسأم والاكتئاب والغربة. فعلى رغم الثورة التي حققتها تكنولوجيا الاتصال، نجد أن الحوار الإنساني يكاد ينقطع، وعزلة الإنسان المعاصر تتعمق وتشتد. تؤكد هذا الاستنتاج دراسات مدنية في الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن العربية، لاحظت أن سكانها أقل معاناة من الاكتئاب على رغم العوز والحرمان، نتيجة العلاقات الودية والتضامن الذي يشعرون به ويعيشونه كتآخ، بالمؤانسة ومشاركة الغير لذاته وآلامه.

هل تدفعنا هذه الملاحظات والاستنتاجات إلى القول بمأزق التقدم وإخفاقه في الارتقاء بالحياة الإنسانية بالتوازي مع الارتقاء الاقتصادي والتقني، والارتكاس إلى الحنين للحياة البدائية على ما تصور روسو وتبعه في ذلك مفكرون عرب من أمثال المراش الذي يتردد في القول «ما أسعد المرء لما كان منعزلاً في البيد، يرتع بين السهل والجبل»؟

هذا الخيار لن يقدم في رأينا حلاً لأزمة الإنسان المعاصر فيصالحه مع حركة التقدم التي لا تتوقف ولن يعيق اندفاعها أي اعتبار. إن العودة إلى الوراء حلم رومانسي مستحيل، والتنكر للتقدم الحضاري بدعوى شوائبه وآفاته ليس مخرجاً للإنسان من دوامة المعاناة التي يدفعها ثمناً لتقدمه العلمي وثورته المعرفية.

الحل وحده في الارتداد إلى الذات الإنسانية مع كل خطوة يخطوها التقدم والالتفات دائماً إلى الكائن الإنساني باعتباره في حد ذاته، غاية كل تقدم وكل إنجاز، وليس وسيلة لأية أهداف أخرى، أياً تكن، اقتصادية أو أيديولوجية أو سياسية.