التاريخ: آب ٢١, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
التّرميز في خطاب الباجي قائد السّبسي - شوقي العلوي
يتميّز الخطاب السّياسيّ للرّئيس التونسي الباجي قائد السّبسي بخصائص عدة، منها روح الدّعابة والارتجال وتوظيف الصّوت والجسد واستعراض القدرات اللغويّة والمعرفيّة وغيرها. ولعلّ التّرميز والإيحاء والتّضمين أبرز تلك الخصائص.

والتّرميز تقنية تستخدم في مجال الاتّصالات والمعلوماتيّة وتقوم على تحويل معلومة واضحة إلى شكل آخر مختصر أو سرّي. ويعتبر فكّ التّرميز العمليّة العكسيّة التي يتمّ بمقتضاها تحويل الرّموز إلى معلومة مفهومة من جانب المتلقّي.

ويقع اللّجوء إلى التّرميز عادة في حالات استحالة أو صعوبة التّواصل من طريق الإشارات العادية من لغة وصورة وصوت...

وفي مجال الاتّصال عامّة وضع الباحث البريطاني ستوارت هال نظريّة «التّرميز/ فكّ التّرميز» ليبيّن أنّ ما اصطلح على تسميته «المتلقّي» ليس سلبياً في العمليّة الاتّصاليّة وإنّما هو يفكّك الرّسائل الاتّصالية ويعيد قراءتها وفق أفكاره ومعتقداته وموارده المعرفيّة.

وفي ما يتعلّق بالاتّصال السّياسيّ الذي يهمّنا هنا، يقع الالتجاء إلى التّرميز اعتباراً لطبيعة الخطاب السّياسيّ الذي يتّصف بالخصوص بالعموميّة والضّبابية ومحاولة «مسك العصا من الوسط» وإرضاء أقصى ما يمكن من الشّرائح الاجتماعيّة التي ينظر إليها رجل السّياسة باعتبارها «أقساماً انتخابيّة» يسعى إلى جلبها واسترضائها، أو في الحدّ الأدنى إلى عدم استعدائها.

ونتج من ذلك ما يعرف بـ «اللّسان الخشبي» الذي أفرغ السّياسة من مضامينها الأصليّة بما هي صراع أفكار ورؤى وبرامج لتسيير الشأن العام. كما نتج منه أيضاً ما يعرف في أدبيّات الاتّصال السّياسي بـ «اللّغة القطنيّة» التي تحرص على أن لا تصرّح بما يمكن دحضه في شكل مباشر.

ويعتبر التّرميز من أبرز الاستراتيجيات المستخدمة في هذا المجال. ونطرح في هذه المقالة أنّ الرّئيس قائد السّبسي كثير اللّجوء إليه لأسباب عدة، منها خبرته الطّويلة في متاهات السّياسة وطبعه الحذر. فمن مزايا التّرميز أنّه لا «يورّط» مستخدمه في اتّخاذ مواقف يمكن أن تعرّضه للمساءلة أو الانتقاد حيث إنّه حمّال أوجه ويتيح التّراجع وحتّى الإنكار.

وإذا ما أخذنا الخطاب الأخير الذي ألقاه الرّئيس يوم 13 آب (أغسطس) 2018 لمناسبة الذّكرى الثّانية والسّتّين لإصدار «مجلّة الأحوال الشّخصيّة»، عيّنة للتّحليل من منظور استخدام التّرميز، وذلك وفق ما يسمح به نطاق هذه المقالة الصّحافيّة، فإنّنا سنلاحظ في البدء ما يأتي:

ـ جاء هذا الخطاب في سياق تاريخي واجتماعي مخصوص يتميّز باشتداد التّنازع والتّجاذب بين «الحداثيّين» المناصرين المساواة التّامة بين المرأة والرّجل، بخاصّة في مجال الميراث وبين «الإسلاميّين» الذين يعارضون ذلك.

ـ يتنزّل الخطاب كذلك في سياق سياسيّ يتّصف ببرود «التّوافق» بين حزب «نداء تونس» وحركة «النّهضة» وبين ما بات يعرف بالتّوافق بين «شيخيهما».

ونعتقد أنّ هذين العاملين «الظّرفيّين» ساهما إلى جانب العوامل المذكورة آنفاً (طبيعة الخطاب السّياسي، طبع الرّئيس الحذر وخبرته الطّويلة) في جنوحه إلى استخدام التّرميز بكثافة في الخطاب المذكور. ونضرب على ذلك الأمثلة الآتية:

ـ قول الرّئيس في أكثر من مناسبة إنّ الدستور الذي ينصّ على المساواة بين المرأة والرّجل في جميع المجالات كانت لـ «الترويكا» المتمثّلة في حركة النّهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التّكتّل الأغلبية في المجلس التّأسيسي الذي وضع دستور 2014 الذي ينصّ عليها. والرّسالة المرمّزة هنا مفادها أنّ حركة النّهضة تحديداً التي تعارض اليوم المساواة في الميراث هي التي وضعت له القاعدة الدّستوريّة، وهي بذلك تناقض نفسها بنفسها. ونعتقد أنّ هذه الرّسالة الموجّهة في الظّاهر إلى قيادة النّهضة موجّهة بالقدر ذاته في الأقلّ إلى قواعد النّهضة التي وقع استنفارها وتجييشها وإخراجها إلى الشّارع يوم 11 آب للتّظاهر ضدّ المساواة في الميراث.

ـ إشارة الرّئيس إلى أنّ النّهضة راسلته بخصوص تقرير لجنة الحرّيات الخاصّة والمساواة وعبّرت عن «احترازات مشروعة عليه»، ولكنّ ما أزعجه أنّ تلك الاحترازات تعلّقت كلّها بنقطة وحيدة هي المساواة في الميراث. والرّسالة المرمّزة هي أنّ النّهضة لم تنزعج من عدم تجريم المثليّة الجنسية ولا من إلغاء حكم الإعدام ولا غيرها من النّقاط الخلافيّة الكثيرة الواردة في تقرير اللّجنة، والتي روّجت للتّنديد بها الجمعيّات والميديا القريبة من الحركة. وهي رسالة تستهدف قيادة الحركة وقواعدها المستنفرة على حدّ سواء أيضاً. والرّسالة الضّمنية الثانية هي لوم قيادة النّهضة على معارضتها النّقطة الوحيدة التي كلّف الرّئيس صراحة لجنة الحريات الخاصّة دراستها، أي أنّ النّهضة لم تحترز على نقاط أكثر حساسيّة بل إنّها صبّت جام احترازها على مشروع الـرّئيس، بالتاّلي على الرّئيس نفسه.

ـ الغمز من قناة الحركة التي دعت في رسالتها تلك إلى مزيد من تعميق الحوار في شأن التقرير. والحال أنّ «اللّجنة حاولت أن تفتح الحوار مع كثير من الأحزاب ولكنّ بعضها لم يستجب لذلك». والمقصود هنا طبعاً حركة النّهضة تحديداً التي رفض رئيسها استقبال أعضاء اللّجنة وفق ما صرّحت به رئيستها.

ـ الرّسالة المرمّزة القويّة الأخرى تتمثّل في الإشارة إلى «الدّور القويّ» الذي لعبته الحركة في التّصويت لمصلحة وزير الدّاخلية الجديد يوم 28 تموز (يوليو) 2018 بـ66 من 68 من نوّابها في البرلمان في معارضة واضحة لتوجّه الرّئيس الذي كان صرّح قبل ذلك بعدم رضاه عن إقالة وزير الدّاخليّة السّابق في إطار توتّر العلاقة مع رئيس الحكومة.

وتحمل هذه الرّسالة المرمّزة الأولى رسالة ثانية لا تقلّ عنها ترميزاً فحواها: كما جنّدتم نوّابكم لدعم وزير الدّاخلية بمثل تلك القوّة والانضباط الحزبي جنّدوهم أيضاً لدعم مشروع قانون المساواة في الميراث أو في الأقلّ لا تقولوا لنا إنّ النّواب أحرار في اتّخاذ المواقف التي يرونها.

هذه مجرّد أمثلة على ما طرحناه في البداية من أنّ الرّئيس كثير اللّجوء إلى التّرميز في خطابه السّياسي للأسباب التي سبق ذكرها، ولحرصه الواضح أيضاً على عدم قطع شعرة معاوية مع الحركة التي تتمتّع بنفوذ سياسيّ واجتماعيّ لا يمكن من كان في مثل خبرته وحذره أن يتجاهله بسهولة.

* باحث تونسي في الاتّصال السّياسي